الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٦٧ - الجمعة ١١ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٠ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


ألفُ ليلةٍ وليلة:
السيرة السحريةُ (٣-٣)





تعددتْ الرؤى حول ألف ليلة وليلة، وغدتْ كتاباً مرفوضاً لدى البعض، فيما اعتبرهُ آخرون كتاب تسلية وتقول الباحثة سهير القلماوي إن مُقدمَ الكتاب (نصَّ منذ البداية على أن للكتاب غاية هي أن يزدجر القارئ ويعتبرُ بما حصل لغيره، ويكرر القصاصُ تلك العبارة في قصص كثير لو تأمله القارئ قليلاً ما وجدَ عبرةً حقة، وإن قصص الليالي قصص تسلية ولهو لا قصص جد وسياسة)، من كتابها ألف ليلة وليلة.

فيما يرى الباحث السوري أبوعلي ياسين في كتابه (خير الزاد في حكايات شهر زاد) أن القصصَ أُنشئتْ للسلوان والعبرة معاً ويدلل على أفكارِها في كتابه العميق الواسع والمرصود لرؤية موضوعات الليالي وكيفية التعبير فيه.

وهناك كاتباتٌ عربيات طالبن بوقف نشر هذا الكتاب لما فيه من تجنٍّ على النساء وتحقير لمكانتهن.

وهناك أدباءٌ عالميون كثيرون في الغرب والشرق اعتبروه تحفة من تحف الإنسانية الفنية الخالدة كما هو حال الكاتب الأمريكي اللاتيني بورخيس الذي لديه تحفٌ من المقالات، والقصص كذلك عن ألف ليلة.

الكتابُ يعبرُ عن مرحلةِ ما قبل الرواية الحديثة، وتشكل كذروةٍ لتطور فن القصة عند العرب، بعد عدة قرون من المحاولات والتراكم، فتأثروا ونقلوا من الأمم الأخرى وصاغه كتابٌ مجهولون لم يعرفوا من قبل كيفية تأليف الملحمة الروائية، العصرية، حيث تسود الروايةُ عن الماضي فقط، ففيه وحده العبرة في تصورهم، لكن كتاب الليالي هو كتابٌ معاصر لزمنه، يراوغُ ويقول إنه كتاب عن الماضي ولهذا ينقل حكايات أبطال زمنه، متقطعين، متناثرين، يستلُ حكاياتهم من دون ترتيب، أو بناء متنام، أو يتبع ترتيباً خاصاً، فسيلانُهُ عفو الخاطر، ومن هنا فلا يحللُ عصراً كما يحدث لاحقاً، أو يسعى لغاياتٍ مسبقة، بل تتناثرُ القصصُ وتُجمعُ من مصادر شتى، وتُحشر في ذلك الهيكل العام الذي هو قصة شهرزاد ؟ شهريار.

ومن هنا فالحكاياتُ تذمُ النساءَ في مكان وتمدحهن قليلاً في مكان آخر، وتعرضُ العاملين البسطاء والملوك والأغنياء، هدفها التسلية ولكن في هذه العروض المسلية هناك تصوير، وهناك إراداتٌ سلبية كثيرةٌ خاضعة لما تسميه القضاء والقدر وهو الحراكُ التاريخي غيرُ المعروض والمجسدُ في الليالي الذي يحولُ البشرَ إلى فلين كثير طافحٍ على نهر الحياة الغامض، والنهرُ مُركبٌ من سطح الحياة العادي، ومن أعماق سحيقةٍ مليئة بالجان والعفاريت، وعلى السطح تجري مغامراتٌ لا تتوقف، الكثير من خيوطها موجود في تلك الأعماق. في قصة السمكات الأربع الموجودة في الليالي الأُوَلِ التي يجلبها صيادٌ فقيرٌ ويحصلُ بسببها على رزق من حاكم القصر، وتتعرضُ هذه السمكات للقلي، لكن يجيءُ سحرةٌ يثقبون الجدرانَ أو يقلبون الأرضَ ويحولون السمكات المقليات إلى فحم محترق. ويُذهلُ الملكُ من استمرار هذه الأعجوبة في قصره، ويقوم بالبحث عن السر عبر مطولةٍ حكائيةٍ خلاصتها أن هذه السمكات الأربع هن عبدة الأديان الأربع في المملكة وهي الأديان الإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية.

إن ثمة ساحرةً قلبتْ حبيبَها إلى حجر وحولت رجلاً أسود إلى عشيق، وخربت المدينةَ بسكانها فتحول أهلها إلى أنواع من الأسماك.

القصة هنا كشفتْ تعددية الأديان وبقاءها، عبر عجائبية قصصية لا تعبرُ عن شيء عميق، فيما كانت العلاقات بين الأديان مختلفة، وتطوراتها تجري في سياقات أخرى، الحكايات أخذت فقط الظاهر العياني رغم أن موضوعها يتسمُ بالغرابة والجدة والتعبير الفني بالمذهل.

إن الوجودَ يجري بلا سببيات مترابطة، والوعي الفلسفي في ذلك الوقت مثل مثله الليالي، يحيل تطورات المجتمعات إلى سببياتٍ ميتافزيقية وغيبية، ويعتبرُ الفلاسفةُ والدينيون المتأثرون بهم أن الأحداث تجري من خلال النجوم والكواكب والأرواح، وهي التي تحرك الحياة وتخمد جذوتها.

ولهذا فإن راوي الليالي ليس من قدرته أن يوسع حضورَ الواقعي والمرئي والإنساني، ولا من قدرته أن يجدَ الأسبابَ لهذا الحراك، والصلات بين الأحداث والظروف، وهو يعيش القدرية والغيبية، ويقتطعُ من ظواهر الحياة أشياء يربطها بخياله ويجعل منها مغامرات مثيرة ويبث أفكاره الشعارية عن القَدر والحياة والنساء.

ومن حالاتِ وذكريات الأسفار وبعضِ خيوط الغرابة يحيلُها لقصص مذهلة عن الجزر والأسماك والطيور والحيوانات المتكلمة، ومن أخبار الخلافة الشهيرة العباسية يصنع حكايات ونوادر، وهي الخلافة القريبة من زمنه المؤثرة عليه لاتزال، ومن مرئياتهِ ونوادر زمنه ينشىءُ طرائف وحكايات، ويأتي رواةٌ آخرون ويضيفون المزيدَ من الحكايات بنفس منهج العجائبية.

وقصدُهُ أن يبهر سامعيه وهو يدعوهم للمتابعة، وتغدو لغاته بين المحكي والفصيح، يعتمدُ على النثر غير الأدبي ويمزجهُ بأبياتٍ قد تكون مناسبة وقد لا تكون، ويصير الأدب الشفاهي مكتوباً، والمكتوب مقروءاً، والمحلي عالمياً.

ولا بد أن تكون الحكاية العجيبة هي محور العمل كله، والمغذية لفعل الشخصيات، وأساس تسليتهم، وحضورهم، ومشاركتهم، وهي ذات وجهين إيجابي وسلبي، فهي كما تنوم الأطفال تنومُ الكبارَ أحياناً، فيشاركون في العالم الخرافي، وآرائه عن النساء والوجود ويبثونها في الحياة ينومون الناس، أو يرفضونه ويشطبونه باعتباره أدباً منحلاً أو متخلفاً، وهناك الباحثون والقراء الأدباء الذين يقرأون الليالي في ضوء زمنها، ومستوى فنه



.

نسخة للطباعة

قصــة نجـــاح

بينما كان السير دونالد تشارلز ماكجيليفاري، المندوب السامي البريطاني الأخير في ماليزيا (1954 - 1957) يهم برك... [المزيد]

الأعداد السابقة