الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٨١ - الجمعة ٢٥ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٤ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


فصل المذاهب عن السياسة الحديثة





مثلما تواجه الثقافة السياسية الدينية مشكلات التطور الاجتماعية والاقتصادية بعد الثورات العربية كذلك عاشت إيران تواجه المعضلات نفسها واختارت الدكتاتورية طريقاً.

ليس في الإرث السني أو الشيعي إمكانيات لمجابهة أوضاع الدول الحديثة ومعالجة قضايا الحريات والبناء السياسي الاقتصادي الدقيقة، ولا تكفي الشعارات مثل ولاية الفقيه وإحياء دولة الخلافة أن تكون دليلَ عملٍ في هذا العصر.

وقد ورّط الخميني الشعب الإيراني بفكرته عن ولاية الفقيه التي حولّها لنظام استبدادي مذهبي قومي شوفيني في الحقيقة. ولكن في التطبيق العملي للفكرة جعل التقنيين والسياسيين البرجماتيين هم الذين يديرون البلد في أثناء حياته.

الكثير من الأحكام الفقهية غدت تتبع قرارات الدولة، وغدت مصلحةَ الحكومة فوق كل مصلحة، وقد أفتى حتى أنه يمكن تعطيل بعض الفرائض كالحج والصيام إذا كانت تتعارض مع مصالح الدولة في بعض الظروف.

لقد أسس التقنيون والتحديثيون النظام الجديد ثم طرِدوا منه، لأن الفئات الوسطى المتعلمة محدودة أمام الفيضان الريفي من العامة الذين لا يعرفون الإسلام ولا العصر، ويتبعون الإرث المحافظ الاستغلالي.

والسبب يعود لخيانة هؤلاء التحديثيين لأسس الحداثة التي قالوا إنهم تبنوها، وهي العلمانية والديمقراطية والعقلانية. أسس لا يمكن تجزئتها، والقبول بالتجريبية والانتقائية فيها، والمشي مع الظروف السائدة مهلكٌ في خاتمة المطاف.

من جانب آخر لم يكن الفقه التقليدي الشيعي عدوانياً ولا مغامراً، كان محافظاً ويسير ببطءٍ في العصر، ولكن ولاية الفقيه كانت اختطافا سياسياً، كذلك لم يظهر مثقفون كبار على دراية بسيرورة الإسلام بشكل قراءة تقدمية ديمقراطية، وأفضل القراءات كانت قراءة محمد باقر الصدر الذي أيد الارتدادَ عن الحداثة ومهّد لولاية الفقيه.

بقاء إيران ضمن الفقه الشيعي المحافظ كان أفضل الحلول، مع تبدل ولاية الفقيه لولاية الشعب عبر أسس الديمقراطية الحديثة.

إن الدولة الإيرانية التي شكلت دكتاتورية دينية قومية فارسية في العمق أخذت تغوص في أزمة عميقة، لقد تنامت الدكتاتورية في كل مجال، وخنقت البذور الديمقراطية والليبرالية والعقلانية، وصعدت ثقافة التعصب والسحر والغيبيات المتطرفة.

يجب التفريق هنا بين الاثني عشرية والقومية الفاشية الفارسية، إن المذهب هو مجرد لباس خارجي خداعي، الغرض منه السيطرة على البسطاء والجماهير العاملة ومنع نشوء وعي ديمقراطي تحديثي علماني، مثل مسيحية هتلر وصليبه المعقوف، والفصل هنا وفرز الجماهير عن القمة ضرورة.

ولا تستطيع السياسة الفاشية أن تبقى وحدها في دولة لابد لها من محور، ومن توسع، ولهذا كانت ضرورة سوريا ولبنان والجماعات المؤيدة المنشقة عن التطور الاجتماعي في بلدانها.

هنا نرى اليوم تفجر هذه السياسة ومخاطر الحروب منها، فالعراق يجابه معضلات التطور السياسي وثمة كتل معينة تريد فرض شموليتها عبر الدعم الخارجي، وسوريا قادت القيادة النظام إلى العزلة ووسط بحر شعبي من الدماء. إنها ذروة هذا المسار المخيف!

هنا تجلت الفاشية بضراوتها ونزعت ورقة التوت الإنسانية الزائفة بأقسى تجلياتها ثم جاء دور لبنان لتوريطه واليمن وهكذا الدول العربية الخليجية.

من ولاية الفقيه ومن عدم الدخول في الحداثة وفرض قالب محافظ متخلف وتصعيد المذهبيين والريفيين المتخلفين لإدارة دولة عصرية، ليس سوى دخول في مأزق عميق لا تصلحه سوى الحروب في رؤيتها المغلقة.

مرحلة الحروب هي الأكثر خطورة، والغرب استنزف قدراته في حربين مع دكتاتوريتين فاشيتين سابقة وحالية، ولم تعد الجماهير في الغرب بقابلة للمزيد من سيول الدماء.

ودول الثورات العربية تواجه معضلات التحول والوقوف على مفترق الطريق نفسه، فهل تكرّر تجربة إيران الكارثية أم تتوجه لبناء ديمقراطيات بأسس الحداثة والإنسانية؟

إن الإرثَ المحافظ سواء كان سنياً أو شيعياً أو درزياً أو إسماعيلياً أو مسيحياً أو يهودياً، لا يقدر أن يكون مؤسِّساً لدولة عصرية حديثة، فمعضلة إيران تتكرر وقبلها كوارث إسرائيل، وليس ثمة أجوبة من التراث للدولة الديمقراطية العصرية والخطط والمؤسسات الاقتصادية والتعامل مع الأمم وغير ذلك، ولهذا فإن الفصل بين السياسات والفقه ضرورة كبرى، حيث تختص المؤسسات الحكومية والبرلماناتُ والأحزاب بالقضايا السياسية والاقتصادية فلا تتخذ دوراً دينياً فقهياً، وتشرع في الحلال والحرام، فيما يقوم بذلك الفقهاء والمؤسسات الدينية التي ينبغي أن لا تسيّس دورَها.

الولاية السياسية للشعب في شؤونه الاقتصادية والمعاشية والثقافية، والمذاهب مستقلةٌ في حراكها الباحث عن حلول لمشكلات المؤمنين. والدينيون سياسيون يتحركون في فضاء السياسة والاقتصاد ينزعون ملابسَهم المذهبيةَ والدينية الخلافية في وجودهم السياسي أياً كان مظهره.

إن خلطَ الأدوار يؤدي إلى تكوين سلطات دكتاتورية باسم الأديان، تقوم بتأبيد العلاقات الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة، وتنجر لصراعات بين المواطنين تؤدي إلى وقف ما أُسست الديمقراطية له وهو تطوير الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافة والحريات لا معالجة قضايا الأديان ذات التواريخ البعيدة.

ينبغي ان تكون الثورات العربية إضافة للتطور الديمقراطي في العالم الإسلامي ككل وقائدة إياه لنبذ الشموليات المذهبية السياسية المختلفة، مطورة تعاونا خلاقا بين أمم متساوية. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى نهضة كبرى تستعيد هذه الأمم بها مكانتها.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة