الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٦ - السبت ٩ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٩ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


رواية «محمد ثائرا» أعادت
الحياة لعادات وميثولوجيا مندثرة





ما انتهت إليه رواية «محمد ثائرا» للروائي البحريني عبدالله خليفة، كشف للقارئ الكثير مما لم يعرفه الكثيرون عن السيرة النبوية الشريفة، فالرسول المنتصر هو وجيشه الصغير في موقعة بدر الكبرى وقفوا على البئر، التي ألقوا فيها جثث عتاة قريش وكفارها، بعد قتلهم في معركة بدر الكبرى، ليقول لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟» سؤال مرعب تردد صداه في أبهاء البئر التي غاضت ماؤها، وابتلع رمله جثث الكافرين، والروائي يعود بالزمن إلى أربعة عشر قرنا من السنين، فيعيش القارئ نبض حياة الناس في مكة المكرمة لحظة ولادة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بعثته المطهرة، وقد تميزت الرواية بنثر راق، فوصف الروائي حياة المجتمع الطبقي في مكة قبل البعثة النبوية المشرفة، ونقل القارئ إلى ذلك المحيط الصحراوي، بقيظه وقره، وجوع فقرائه وغنى أغنيائه، وما كان يقع من ظلم على العبيد والإماء والفقراء، والنساء، حتى تشعر بأن الراوي عاش مع هؤلاء القوم، وشاركهم صخبهم في ناديهم، وعبثهم في خيام ذوات الرايات الحمر على أطراف مكة، ورأى كيف توأد البنات، ونقل لنا سيرة محمد بن عبدالله، الغلام اليتيم، وهو يرعى الغنم في وديان مكة، ليساعد عمه في كلف الحياة، وقد كان العم كثير العيال، وما كان يفكر فيه، وهو يرعى غنمه ليتعلم بعد ذلك كيف يرعى الناس، فقد جعلها الله تعالى مهنة لرسوله الموعود يتدرب فيها على ما هيئ له من عظيم الأمور القادمة.

يقسم الروائي عبدالله خليفة سرده في هذه الرواية إلى خمسة وخمسين فصلا قصيرا، وهو التكنيك الذي دأب على استخدامه في معظم رواياته السابقة، ابتداء من الأقلف، التماثيل، ذهب مع النفط، وروايات أخرى غيرها من التي تناولت سيرة الخلفاء الراشدين، وقد أعطت هذه التقنية الروائية للكاتب حرية التنقل السريع بين شخصيات روايته، كما يفعل عادة كتاب السيناريو السينمائي، مما يعطي القارئ صورة شاملة عن الحدث في أماكن عدة في زمن متقارب، كما يتيح معرفة واسعة لدخيلة كل شخصية، ولم يبتعد الروائي عن السيرة الحقيقية لأبطاله بالرغم من أن الرواية غير محكومة بالتوثيق، وغير مسؤولة عن صدق ما ترويه من أحداث، فهي تنقل رؤية الكاتب، حول موضوع مهم آثره على غيره، ليقول لنا عبر ما يمتلكه من فن روائي، ما عجزت عن قوله باقي الفنون البلاغية.

والرواية العربية التي بدأت تميل في عقدها الأخير إلى تسجيل السيرة، وروايتها، إن كانت سيرة الكاتب ذاته، أو سيرة لشخصية مهمة تماهى معها الكاتب، وجعلها تعيش حلمه في الانعتاق من واقع ما، والحلم بواقع آخر أكثر حرية فيه لشخوصه، وهذا بالضبط ما فعله الروائي في هذه الرواية، فنقرأ في الرواية شخصية الرسول الكريم الثورية، التي جاءت في زمن راكد، تتقاسمه امبراطوريتان قويتان هما الامبراطوريتان الفارسية والرومانية، وبينهما مكة البلد الفقير النائي، القليل الموارد، في صحراء جزيرة العرب القاحلة، وقد زهد في احتلاله الفرس والرومان لأنه شحيح الموارد، قاسي الطبيعة، لقد استطاع الكاتب عبر مونولوجات مركزة في داخل الشخصيات، وحوارات بين شخصيات الرواية، وتقنيات روائية سردية، أن يوضح لنا هذا الجانب الثوري في شخصية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

يتفاعل السارد والمحكي عنه والمتلقي في صنع أحداث الرواية، فمرة يتحدث السارد فيروي حتى نشعر بأن السارد شخصية من ضمن العمل الروائي ثم يلوح في لحظة ما خلال القراءة أن السارد هو الروائي ذاته، وفي الحقيقة هذه الطريقة من السرد تجعلك في يقظة دائمة، لمتابعة الشخصيات في لحظات تأزمها الذي تعيشه، وتنبهر بشخصيات كالسيدة خديجة الكبرى رضي الله عنها، التي كانت أميرة بحق من أميرات مكة، وكانت قد وضعت جميع أملاكها وأموالها تحت قدمي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لخدمة الدين الجديد، حتى انها في مرة من المرات طرحت ما تملك من مصوغات ذهبية، وحلي ثمينة على الأرض فغطت المسافة بينها وبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت لكي تنظر إليه تميل برأسها إلى جانب التل الذي صنعته تلك المجوهرات، لكي لا تحرم من رؤية وجه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بسبب تل الجواهر ودنانير الذهب والفضة ذاك، وكانت تقول له، اموالي تحت قدميك فتصرف بها ما شئت.

وفي مقطع مؤثر من الرواية يروي الرسول لزوجته خديجة الكبرى عن الرسالة التي كلف بها من الله تعالى، فتقول له، مصدقة ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم «والله إنك لرجل خير، تصل أهلك وتعطف على الناس، فأنت الجدير بالنبوة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله» ص.١٤٣

وتنقل لنا الرواية ما نقلته قريش عن الرسول من شائعات كاذبة لتبرير غرورهم، وصلفهم وتمسكهم بشركهم، فادعوا أن الرسول الكريم عاد إلى شركهم ومجد ألهتهم، واخترعوا له قولا قاله، ووصفا مجد به أصنامهم، بقوله انها الغرانيق العلا، ص ١٧٥ ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقول إلا ما يوحى إليه من واحد أحد، هيهات أن يقول هذا القول، الذي يدحض رسالته التوحيدية، فانبرى لهم مكذبا ومعه الصحابة، الذين امنوا بمحمد ورسالته السامية.

لقد أحب الروائي عبدالله خليفة شخصياته الروائية حبا جما، وتابع شؤونهم الصغيرة والكبيرة في المتن الروائي مما خلق ألفة حقيقية بين القارئ، وما تعيشه الشخصيات من أحداث، فشخصيات مثل ميسرة، خادم خديجة الكبرى وبلال وعمار بن ياسر، وأبي طالب، وورقة بن نوفل، شخصيات تشعرها تتنفس على الورق، وتعيش الأحداث كأنما تؤدي دورها، الذي قامت به قبل قرون، ولكنها تؤديه هذه المرة على الورق، مخلوقات تتألم وتحلم، وتعيش حلمها، وتصنع نصر الثورة على ما تعيشه قريش من وثنية، وتردي حياة معظم الناس الاجتماعية في ظل بطشهم وظلمهم، للفقراء والعبيد، وانعدام الكرامة الإنسانية للإماء والنساء عامة في ظل جاهليتهم، وفي الجانب الآخر نرى شخصيات كهشام بن الحكم، أبوسفيان، المغيرة، وهم يتنافسون لكي يصير أحدهم ملكا على مكة، ويسافر ابوسفيان ومعه المغيرة إلى بلاد فارس، ويقابلان كسرى على أمل أن يعترف بأحدهما ملكا على مكة من دون ان يكلف نفسه احتلال مكة، وقد حملا إليه هدية، هي «التمر واليقط وسط ضحكات حاشية كسرى» ص ٦٥ لبؤس الهدية، وقلة قيمتها لدى الامبراطور الفارسي، الذي اخبرهما بزهده في بلادهما، وهي الصحراء التي لا ضرع فيها ولا ماء ولا كلأ ولا وجه حسن، واهدى كلا منهما ثوبا، وسط سخرية الحاشية بالتاجرين العربيين.

تبدأ الرواية بولادة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وتتناول حياته في مكة قبل البعثة النبوية المشرفة وبعدها وصراعه مع المشركين في مكة وبعد ذلك هجرته إلى المدينة المنورة، وصراعه وأصحابه في المدينة المنورة مع اليهود والمنافقين، وتتوقف أحداث الرواية بعد معركة بدر الكبرى، وانتصار المسلمين فيها، وتنتهي بجملة معبرة عما حدث بعد ذلك، ومؤشرة لانتصار كبير حققه المسلمون فيما بعد «فتح مكة، ومشى في الملك العريض فقيرا بسيطا عادلا» ص.٢٢٣

رواية «محمد ثائرا» إحدى أهم الروايات التي كتبها عبدالله خليفة، فقد أعادت الحياة لعادات وميثولوجيا مندثرة، كما أن موضوعها السهل والصعب في الوقت نفسه، يصعب على الكثيرين ممن كتبوا الفن الروائي في الوطن العربي، فإعادة الحياة كما فعل عبدالله خليفة في هذه الرواية، لمجتمعات مضى على اندثار عاداتها، ومثولوجياتها، وما كان يعيشه أهل مكة في الجاهلية من أحوال وأفكار وقيم، لهي مهمة عسيرة حقا، وتتطلب من الروائي بحثا دؤوبا لما كتب عن تلك المرحلة، وما كان يعيشه الناس في تلك العهود البعيدة، ومن مزايا الرواية الأخرى أن عبدالله خليفة جعلنا نتلمس شخصية الثائر على القيم القديمة، والظلم الاجتماعي في شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما انه استطاع أن يجسد الروح الإنسانية، والأخلاق النبيلة التي اتصف بها الرسول الكريم خلال صراعه مع أعدائه من مشركي قريش.

{ رواية «محمد ثائرا» المؤلف: عبدالله خليفة / صدرت عن الانتشار العربي / بيروت - لبنان / عام ٢٠١٠ ط١ و٢٢٣ صفحة من القطع المتوسط.



.

نسخة للطباعة

من أصداء الحوار

عندما نتصدى بالكتابة عن وزير الداخلية فإننا لا نتناول شخصه الكريم، إنما نخوض في معاناة شعب بأكمله، ونتعامل ... [المزيد]

الأعداد السابقة