محمود درويش والتوراة
 تاريخ النشر : السبت ٩ يونيو ٢٠١٢
موسى حوامدة
لا ينكر أحد القيمة والدور والأهمية التي جسدها محمود درويش شاعرا وناثرا، لكن من حقنا أن نتناول قصائده بالإعجاب، وبالنقد أيضا؛ فهو ليس رمزا إلهيا لا يجوز نقده أو عدم الإعجاب بأي من نصوصه. إن ترميز الأسماء الأدبية ووضعها فوق النقد، يضران بها ويجعلانها محصنة عن النقد، والكتابة أساسا بحث عن الحرية، فلا يجوز أن نتحول من عبودية أصنام إلى عبودية أسماء، فالحب والإعجاب حتى النفور، أكثر إنسانية من التبعية والعبودية.
سقت هذه المقدمة للقول: إن نقد بعض قصائد درويش، أو حتى شعره، أو نثره، لا يعني التقليل من أثره أو كراهيته، ولا يعني، كما يظن البعض، التنكر لتاريخه، أو محاولة تخريب إرثه، بل لابد من النقد دائما، لكل نص، مهما بلغت جماليته وسطوته، فالنقد علامة صحية، أما التبعية فهي من علامات التخلف.
استوقفني الأثر التوراتي في شعر درويش، وحينما راجعت بعض النصوص والقصائد، وقارنت ذلك مع بعض أسفار التوراة، وجدت تأثرا كبيرا من قبل درويش بالتوراة، وهذا حقه كشاعر يتعامل مع اللغة، حقه أن يتأثر، وأن يعارض ويدين، أو يختلف، أو يستخدم هذه الرموز التوراتية، لكن تقمص هذه الرموز، وبهذه الكثرة، يدل على أنه كان يعتبر التوراة أحد مصادره الشعرية، وأنها أثرت فيه، وعليه، إلى درجة الاستلاب، وهذا ما نخشاه حقا؛ أن يكون درويش قد وقع تحت سطوة الأدب العبري، والتوراة بالتحديد.
ما يثير الانتباه والاستغراب حقا، قيام المرحوم بنقل مقاطع كاملة من التوراة، ووضعها في قصائده، باعتبارها من تأليفه، أي من دون إشارة للمصدر، لا من قريب ولا من بعيد. يقول درويش في «الجدارية»: «باطلٌ، باطلُ الأباطيل باطلْ»، وفي الإصحاح الأول من سفر الجامعة ورد:
«١ كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ:
٢ بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُللا بَاطِلٌ.
وفي الجدارية كتب درويش: «الرياح شمالية والرياح جنوبية».
وفي سفر الجامعة، من الإصحاح نفسه:
«٦ اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إلى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إلى الشَّمَال.
وفي «الجدارية»: «تُشْرِقُ الشمسُ من ذاتها/ تَغْرُبُ الشمسُ في ذاتها».
وفي التوراة؛ ٥«وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إلى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِق.
وفي الجدارية:
«للولادة وَقْتٌ
وللموت وقتٌ
وللصمت وَقْتٌ
وللنلاطق وقْتٌ
وللحرب وقْتٌ
وللصلالحِ وقْتٌ
وللوقتِ وقْتٌ
ولا شيءَ يبقى على حالِه.
وفي التوراة:
«١ لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ:
٢ لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ.
٣ لِلْقَتْلِ وَقْتٌ وَلِلشِّفَاءِ وَقْتٌ. لِلْهَدْمِ وَقْتٌ وَلِلْبِنَاءِ وَقْتٌ.
٤ لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضَّحْكِ وَقْتٌ. لِلنَّوْحِ وَقْتٌ وَلِلرَّقْصِ وَقْتٌ.
٥ لِتَفْرِيقِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ وَلِجَمْعِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ. لِلْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ وَلِلانْفِصَالِ عَنِ الْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ.
٦ لِلْكَسْبِ وَقْتٌ وَلِلْخَسَارَةِ وَقْتٌ. لِلصِّيَانَةِ وَقْتٌ وَلِلطَّرْحِ وَقْتٌ.
٧ لِلتَّمْزِيقِ وَقْتٌ وَلِلتَّخْيِيطِ وَقْتٌ. لِلسلاكُوتِ وَقْتٌ وَلِلتَّكَللامِ وَقْتٌ.
٨ لِلْحُبِّ وَقْتٌ وَلِلْبُغْضَةِ وَقْتٌ. لِلْحَرْبِ وَقْتٌ وَلِلصلالْحِ وَقْتٌ.
٩ فَأَيلا مَنْفَعَةٍ لِمَنْ يَتْعَبُ مِمّ.
وفي الجدارية:
«كُللا نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ
والبحرُ ليس بملآنَ،
لا شيءَ يبقى على حالِهِ
كُلّ حيّ يسيرُ إلى الموت
والموتُ ليس بملآنَ.
وفي التوراة؛ ٧: «كُللا الأَنْهَارِ تَجْرِي إلى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إلى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إلى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَة.
وفي «الجدارية» يقول درويش:
«١٤٠٠ مركبة
و١٢,٠٠٠ فرس
تحمل اسمي المُذَهَّبَ من
زَمَنٍ نحو آخر»، وهي عبارات الملك سليمان نفسها في سفر الملوك، حتى بالرقم.
وفي «الجدارية:
«عشتُ كما لم يَعِشْ شاعرٌ
مَلكا وحكيما
هَرِمْتُ، سَئِمْتُ من المجدِ
لا شيءَ ينقصني
أَلهذا إذاً
كلما ازداد علمي
تعاظَمَ هَمِّي؟
فما أُورشليمُ وما العَرْشُ«، وهذا اقتباس من سفر الجامعة أيضا، وعلى لسان سليمان.
يقول القس متري الراهب إن درويشا كان متعلقا بسفر الجامعة، وكان ملما بالعهدين القديم والجديد إلى درجة أنه وصفه بأنه كان لاهوتيا.
حتى لو كان متعلقا بأي سفر من أسفار العهد القديم أو الجديد فهذا لا يضيره، لكن نقل المقاطع حرفيا، وكما وردت في التوراة، أو تحويرها بشكل خفيف فقط.. هل يعتبر تناصا أو اقتباسا، حتى لو لم يشر إلى ذلك؟ إن الأثر التوراتي في شعر درويش لا يحتاج إلى دليل، فقد قال درويش نفسه، ذات يوم: «لقد قرأت التوراة بالعبرية وأحببت ركاكة بعض الترجمات العربية». لا غبار على ذلك، لكن نقل بعض المقاطع، كما هي في الأصل التوراتي، تجعلنا نتحفظ على هذا النقل الحرفي، وذلك يحتاج إلى دراسات نقدية معمقة، تحلل لنا هذه الظاهرة، من دون تخوين، أو تشكيك، ولكن من دون خوف أو فزع.
.
مقالات أخرى...
- عبدالله السعداوي ذلك الشيخ المفتون بحكاية المسرح (٢-٢) - (9 يونيو 2012)
- الضفة الثالثة للنهر(١) - (9 يونيو 2012)
- الأرضُ تحت الأنقاضِ مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (٢٠) - (9 يونيو 2012)
- شكرا سيلان.. تعاليم الروح الطاهرة - (9 يونيو 2012)
- الثنائية في رواية أيام الحب والموت لمنى عوض - (9 يونيو 2012)
- قضايا ثقافية تداخل المراحل الثقافية - (9 يونيو 2012)
- رواية «محمد ثائرا» أعادت الحياة لعادات وميثولوجيا مندثرة - (9 يونيو 2012)
- عــقــوبـــــــــــــــــة - (2 يونيو 2012)
- أسبوع الأدب في سيرفانتس بمشاركة: الشعراء: أدونيس، اللعبي، بنيس - (2 يونيو 2012)