الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٦ - السبت ٩ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٩ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


الضفة الثالثة للنهر(١)





تعريف بالكاتب: جاو جيمريس روسا (١٩٠٨-١٩٦٧) قاص وروائي برازيلي مشهور. كتب الأدب القصصي الذي كان جمعا رائعا للرواية الإقليمية في شمال شرقي البرازيل مع الشاعرية الطليعية المتمركزة في ساو باولو. من رواياته «الشيطان يدفع في الأراضي الخلفية» ومن مجموعاته القصصية «الضفة الثالثة للنهر وقصص أخرى» و«أسلاك الباليه» و«ساجارانا».

كان والدي رجلا مطيعا ومنظما ومستقيما. ووفقاً للعديد من الأشخاص المعتمدين الذين استفسرت منهم كان والدي يتصف بهذه الخصال منذ سن المراهقة أو حتى الطفولة. وحسب ذكرياتي الخاصة لم يكن رجلاً مرحاً أو متسماً بالكآبة أكثر من الرجال الآخرين الذين عرفناهم. ربما أهدأ قليلاً، فقد كانت أمي وليس أبي هي التي تدير البيت. كانت توبخنا يوميا، أختي وأخي وأنا. لكن صادف في أحد الأيام أن طلب أبي قارباً.

كان جادا في طلبه. سيصنع القارب خصيصا له من خشب الميموز. ينبغي أن يكون قويا بما فيه الكفاية لكي يبقى مدة عشرين أو ثلاثين سنة وكبيراً بما فيه الكفاية لاستيعاب شخص واحد. والدتي تندرت كثيراً على ذلك. هل كان زوجها سيصبح صائد أسماك فجأة؟ أوقفناصا؟ والدي لم يقل شيئاً. كان بيتنا على مسافة تقل عن ميل واحد من النهر الذي كان عميقاً وهادئاً وواسعاً لدرجة انك لا تستطيع أن ترى عبره.

لا أستطيع أن أنسى أبدا اليوم الذي تم فيه تسليم قارب التجديف. لم يصدر عن أبي ابتهاج أو أية عاطفة أخرى. فقط ارتدى قبعته كما يفعل دائماً وقال وداعاً لنا. لم يأخذ معه طعاماً أو حزمة من أي نوع. توقعنا أن تتصرف أمي بعنف وتتبجح إلا أنها لم تفعل. بدت شاحبة جدا وعضت شفتها وكل ما قالته هو:

«إذا ذهبت بعيداً، فابق بعيداً ولا ترجع أبداً».

لم يرد أبي عليها. نظر بلطف إلي وأخذني لأمشي معه. خفت من غضب أمي إلا أنني أطعته باشتياق. مشينا معاً نحو النهر وشعرت بالشجاعة والراحة كثيراً لدرجة أنني قلت: «أبي، هل ستأخذني معك في القارب؟».

نظر إلي فقط وتمنى لي الخير وبحركة واحدة أخبرني أن أعود إلى البيت. تصرفت كما لو أنني سأفعل ذلك لكن حينما أدار ظهره اندفعت خلف بعض الشجيرات لمراقبته. ركب أبي في القارب وجدف بعيداً. ظله تزحلق عبر الماء كتمساح طويل وهادئ.

والدي لم يعد ولا حتى ذهب إلى أي مكان في الحقيقة. فقط جدف وطفا عبر النهر وحوله. كل واحد أصيب بالذعر. الشيء الذي لا يمكن أن يحدث صار يحدث الآن. أقرباؤنا وجيراننا وأصدقاؤنا جاءوا لمناقشة هذه الظاهرة.

أحست أمي بالخجل. لم تقل إلا شيئاً قليلاً وعاملت نفسها برباطة جأش. نتيجة لذلك كل واحد تقريباً أعتقد، رغم أنه لم يقل، أن أبي قد فقد رشده. على الرغم من ذلك أقترح البعض بأن أبي ربما كان يوفي بعهد قطعه إلى الله أو إلى أحد القديسين أو بأنه ربما أصيب بمرض مروع كالجذام مثلا وغادر لمصلحة العائلة وفي نفس الوقت كان راغبا أن يظل قريبا نسبيا منها.

المسافرون على طول النهر والأشخاص القاطنون قرب الضفة على أحد جانبيه أو على الجانب الاخر قالوا ان أبي لم يضع أبداً قدمه على اليابسة سواءً في الليل أو في النهار. فقط كان يتحرك حول النهر بشكل منعزل من دون هدف كالمهجور. أمي وأقرباؤنا اتفقوا على أن الطعام الذي أخفاه بدون شك في القارب سوف ينفد قريباً ثم سوف يترك النهر ويسافر إلى مكان ما يكون على الأقل أكثر احتراما أو سوف يندم ويعود إلى البيت.

ما مدى حقيقة ما يقولون؟ كان لدى والدي مصدر سري للتموين: أنا. كل يوم كنت أسرق الطعام وأحضره إليه. في الليلة الأولى بعد مغادرته أشعلنا النيران على الشاطئ وصلينا ونادينا عليه. كنت أشعر بضيق شديد وأحسست بالحاجة إلى أن أفعل شيئاً أكثر. في اليوم التالي توجهت إلى النهر مع رغيف من الحنطة وعنقود من الموز وبعض القطع من السكر البني الخام. انتظرت بفارغ الصبر ساعةً طويلة جدا. ثم شاهدت القارب بعيداً ووحيداً ينزلق تدريجيا على مياه النهر الناعمة. كان أبي جالساً في قاع القارب. رآني لكنه لم يجدف ناحيتي أو يفعل أي حركة. أريته الطعام ثم وضعته في صخرة مجوفة على ضفة النهر التي كانت مكاناً آمناً من الحيوانات والمطر والرطوبة. فعلت هذا يوماً بعد يوم بصورة مستمرة. فيما بعد علمت، لدهشتي، أن أمي تعرف ماذا كنت أفعل وكانت تترك الطعام حولي حيث أستطيع أن أسرقه بسهولة. كان لديها الكثير من المشاعر التي لم تظهرها.

أرسلت أمي في طلب أخيها لكي يأتي ويساعد في عمل الحقل وأمور أخرى. طلبت إلى معلم المدرسة أن يأتي ويدرسنا في البيت بسبب الوقت الذي خسرناه. في أحد الأيام، بناء على طلبها ارتدى القسيس ثوبه وذهب إلى الشاطئ وحاول أن يطرد الأرواح الشريرة التي دخلت إلى جسد والدي. صاح بأن والدي عليه واجب أن يوقف عناده غير الديني. في يوم اخر رتبت لكي يأتي جنديان ويحاولا إرعابه. كل هذا لم يكن مجديا. استمر والدي مبتعدا، أحيانا بعيدا جدا لدرجة لا يمكن رؤيته إلا بالكاد. لم يرد أبداً على أي واحد ولم يستطع أحد أن يكون قريباً منه. حينما جاء بعض رجال الصحافة في سفينة لالتقاط صورته وجه أبي قاربه إلى الجهة الأخرى من النهر، إلى المستنقعات التي يعرفها كما يعرف كف يده لكن الأشخاص الآخرين يتوهون فيها بسرعة. هناك في متاهته الخاصة التي تمتد لعدة أميال بأوراق النباتات الكثيفة حوله التي تندفع على كل الجهات كان أبي في أمان. وجب علينا تعود فكرة كون أبي بعيدا عنا في النهر. حاولنا إلا أننا لم نستطع، لم نستطع أبدا.



.

نسخة للطباعة

من أصداء الحوار

عندما نتصدى بالكتابة عن وزير الداخلية فإننا لا نتناول شخصه الكريم، إنما نخوض في معاناة شعب بأكمله، ونتعامل ... [المزيد]

الأعداد السابقة