الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥١٢ - الاثنين ٢٥ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٥ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

زاوية غائمة


حسبت نفسي «خطيرا»





ارتفعت روحي المعنوية بعد أن استوفيت متطلبات السفر الى لندن لدراسة فنون العمل التلفزيوني، وحجزنا مقاعد في الطائرة المتجهة الى لندن في ٨ يوليو (عام ١٩٧٦)، وسافرت إلى مدينة مدني في أواخر شهر يونيو لقضاء بضعة أيام لوداع زملائي في تلفزيون الجزيرة الريفي في ود مدني، (وكان إرسالها لفترة مسائية قصيرة)، وبينما كنا في الاستراحة منهمكين في الونسة، سمعنا أبواق سيارات عديدة في فناء المحطة فخرجنا، وإذا بطابور من سيارات الشرطة والجيش يقتحم المبنى.. قلت: الدوام لله يا ابو الجعافر.. في البداية استشاروا جهاز الأمن في أمر سفرك، ولما أعرب عن عدم ممانعته في سفري، حوّلوا أوراقي الى الحزب الحاكم، وبعد مماطلة تدخل أحد قادة الحزب من أقاربي وحصل لي على التصريح بالسفر، ومن المؤكد ان ذلك لم يعجب بعض الجهات المتنفذة في الحكومة فأرسلت كتيبة من العسكريين لاعتقالي.

اقتربت مع الآخرين بحذر نحو رتل السيارات، ورأيت الرائدين أبو القاسم هاشم وزين العابدين محمد احمد عبد القادر يترجلان من سيارة وعلى وجهيهما علامات الغضب، وكان الرجلان عضوين في «مجلس قيادة الثورة» الذي تشكل بعد انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩، ثم صارا وزيرين بعد ان استفرد نميري بالحكم وصار رئيسا للجمهورية بعد انتخابات نافس فيها نفسه، كما تقضي الممارسات الديمقراطية العربية، فقلت في سرّي: ياه أنت خطير الى هذه الدرجة يا أبو الجعافر بحيث ترسل الحكومة اثنين من أكبر رموزها لاعتقالك؟ ولا يهمك فالتاريخ سيذكر لك هذه البطولة (وشخص يأتي لاعتقاله وزير الداخلية شخصيا ومعه وزير الشباب والرياضة لا بد ان يكون بطلا أسطوريا).. وتعجبت لأنهما لم ينظرا إلي بل صاح ابوالقاسم مطالبا بتشغيل المحطة لأنه يريد ان يلقي خطابا موجها الى الشعب السوداني.. أيوه.. يعني اعتقالي وحرماني من السفر سيكون متلفزا ويعرف به جميع السودانيين.. ثم انتبهت الى ان مدير المحطة عباس التوم يتكلم بأسلوبه المهذب مع ابوالقاسم والأخير في قمة الانفعال... وبعد هرج ومرج خرج الرجلان ورتل السيارات من المحطة.

كان ذلك في الثاني من يوليو (١٩٧٦) وكانت قوات من المعارضة قد اجتاحت العاصمة، واحتلت مواقع استراتيجية فيها، وكان ابوالقاسم وزين العابدين وقتها في ود مدني في مهمة ما وأرادا استخدام التلفزيون الريفي لإصدار بيان مناوئ للمحاولة الانقلابية، ولكن عباس شرح لهما ان أجهزة المحطة تحتاج الى زمن طويل كي «تسخن» وتكون جاهزة للبث، والأهم من كل هذا أن إرسالها لا يصل الى الخرطوم، ولهذا غادر الرجلان المحطة غاضبين كما دخلاها.. كانت تلك المحاولة للإطاحة بحكم نميري من تدبير ما يسمى الجبهة الوطنية وكانت تتألف من ثلاثة أحزاب كبيرة، وقاد الحركة العميد محمد نور سعد... تمنيت للحركة النجاح رغم سوء ظني بالانقلابات العسكرية، لأن نميري كان قد بدأ يتفرعن حتى على من شاركوه في الانقلاب الذي أوصله الى السلطة، ثم سمعنا ان المحاولة ليست انقلابا عسكريا من قبل الجيش، بل قام بها مجموعات تم تدريبها في ليبيا وإثيوبيا، وأن شوارع الخرطوم بدأت تشهد معارك ضارية بعد وصول قوات من خارج المدينة موالية لنميري، وقد فات على الانقلابيين الاستيلاء على الإذاعة والتلفزيون واستغل موالو نميري الفرصة وأعلنوا عبرهما ان السودان يتعرض لغزو من مرتزقة.. ولأن الناس رأوا أناسا مدنيين يقاتلون الجيش النظامي فقد صدق كثيرون منهم حكاية «المرتزقة»، ولم يكتب للمحاولة النجاح إلا في وضع عقبة جديدة أمام سفري إلى لندن.





jafabbas١٩@gmail.com



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة