الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٤ - السبت ٧ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٧ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

"البحرُ لا يعتذرُ للسفن" ديوانُ علي الشرقاوي الجديد

بلاغةٌ مفضوحةٌ بالتفاؤل عبر حالاتٍ وفواصل





عمرٌ طويل مع الشعر والكتابة، تلك التي سورت علي الشرقاوي بعلاقة الأرض بالسماء، علاقة لا يمكن لا حد أن يفصلها عن جسد الحياة.

سنوات طويلة وهو في صراع مع الشعر، مرة تراه على سارية السفن وأخرى على جمارة النخل.

رضع من حكايات البشر ما جعل روحه تتنقل كالفراشة من زهرة لأخرى.

بحر من الكتابة، ينثر حزنه هنا وأخرى ينثرها فرحه عبر محبة الآخرين.

بين صفحات كتابه الأخير والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر

في إطار التعاون بين المؤسسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الثقافة في مملكة البحرين والمعنون "البحر لا يعتذر للسفن" ديوان ترك داخل أوراقه الشاعر الكثير من الأحلام التي حملها كوثيقة حب بينه وبين البشر، لم يفصل الألوان بين ابيض واسود، بل جعل لونه لوناً لا يعرف النسلاخ عن الألوان الأخرى التي ارتبطت بعموم الحياة ومشاعل الروح.

يقع الديوان في ٣١٢ صفحة من القطع المتوسط والغلاف من تصميم الشاعر حسين فخر.

عليٌ ذلك الخارج في أول كتبه الشعرية عبر أول ديوان شعري عرفه من خلاله الجمهور هو "الرعد في مواسم القحط" عام ١٩٧٥ ولم يتوقف عن الكتابة والنشر، بل خبر البحر والأرض فكانت له قصة الحياة نخلة باسقة وبحر ازرق الحكايات.

بلاغة الحلم

في كل مرة اقرأ فيها جديد لشاعر علي الشرقاوي، تنحدر أمام عيني درتان.

الأول تلك الثروة اللغوية التي يتهادى على كلماتها الشرقاوي.

والثانية تلك الحكمة التي استلهمها الشرقاوي من خلال تجاربه الشعرية والكتابية.

درتان أن جاز لي التعامل معهما بشفافية حلم الشرقاوي، أكون أسعد البشر، وأكون سيداً يمسك حلم علي، لأن السنين العجاف علمت علي كيف ينسل شعر النخل وكيف يخضب أنامل البحر.

عليُ في المدار رسالة محبة وفضاء مكتظ بدردشة العصافير، فالدرتان اللتان مد جسر تجربته من خلالهما، درتان قطع بهما مسافات طويلة حتى وصل لمربع الحكمة من جوهر الحلم.

فمن قصيدة ما لا يتفهرس يقول الشاعر:

بالقلب رأيت:

كوكب أزمنة في شكل الولدان

حنان صلاة في الصمت العاصف

تاريخ الحجر الناطق بالماء الممكن

ريحان الغبطة

عاطفة الكاف الأمارة بالريح

ضفاف الحدس الخارج من سلطة كل الكلمات

أمواج الذبذبة الأولى

وفراغات الأوتار الكونية

ورأيت الماضي والمستقبل ورأيت ..

ورأيت ...

الشرقاوي يجمع بين إحساسه الإنساني وبين الطريق الذي سارت عليه هذه الأحاسيس، وكما أشرت بالقيمة الفنية لمكنون الدرتين، حيث لا يمكن للحلم أن يكبر ويتعرف على غرائزه دون معرفته مسبقاً بقيمته التي درج عليها في التكوين، وليس التكوين صفة دون فعل القيمة، فالقيمة هي الجوهر من الدرتين اللتين تمسك بماهيتمها الشاعر.

فالنص "فيما لا يتفهرس" يشير لتنيك الدرتين من حيث احتواءهما القيمة للعمل الإنساني المرتبط بقلب ذا جسد حي، يقود الشاعر نحو محبة الآخرين من خيل اندماجه الاجتماعي.

فالشاعر عندما فتح قصيدة بقوله: بالقلب رأيت، أي بمعنى بالحلم رأيت لأن القلب دليل حي وصادق على ما يحتويه الحلم، وليس الحلم المراد منه أضغاث لا يمكن التحقق من جوهرها، بل هو حلمٌ متحرك يتلمس كل ما حوله ويستدل على طرق العودة والثبوت من خلال فعله المرتبط بالقلب.

وعندما قال: كوكبة أزمنة في شكل ولدان:

اتضح دور القلب في الارتباط بالرؤية من حيث معالمها السيكولوجية، التي لا يمكن لها الانفصال عن واقعها.

فالولادات المرتبطة بالأزمنة، هي تاريخ، أعطى للشاعر جوهر الدرة الأولى وقد تكون الدرة الثانية، وما بعدها من أدوار في محيط اكتظاظ الإنسان بواقعه، وما حوله من اكتشافات لكل جهات الواقع من خلال حلم يتجدد لديه كلما كبرت سنين العمر وخبر ما حوله من الأشياء.

وكما يقول: صاحب كتاب علم الاجتماع أنتوني غدنز في معنى "الهوية" إن الأوضاع الاجتماعية التي نولد فيها وننشأ حتى سن البلوغ تترك بالتأكيد أثارها الواضحة على سلوكنا. هذا التوصيف لغدنز قد يفيدنا أكثر، كون الشاعر الشرقاوي خبر منذ كان طفلاً تلك الأوضاع التي جعلت من سلوكه ما يؤكد لنا القيمة الإنسانية التي تمسك بفعلها عبر مفهومه للقيمة من خلال جوهر العمل في نواحي سيكولوجية أثرت في نفسه وهذبتها وجعلته طيعاً في رسالة الحب أو عبر لغة الحمام التي صاحبت نفسه المسالمة.

ومن نص "الجسد التناص" يقول الشاعر:

انه جسد ..

ينتمي لصلاة القناديل

قبل هطول المواويل يوم أحد

كالتناص الذي يتوهج في شقشقات الأبد

كلنا جسد في مرايا جسد

هذا المقطع يكتمل فيه جوهر العمل من الدرتين، لا، الشاعر يشير لجسد ينتمي لصلاة النور، القناديل التي تفضح فعل الجسد من خلال التوين الأمثل للعلاقة النفسية التي أكد عليها أنتوني غدنز في رؤيته للهوية عندما يكون ارتباطها بعمق القيمة الإنسانية لفهم والتعامل مع البشر.

"كنا فتك الجريئة في شهيقي لا تحددها خطوط السير ... أنت حديقتي الشهلاء بين النبض .. لا أحد سيعرف .. أيها السري أي الخط تمشي الأرض .. لا أحد يراك سواي .. تنفس كالمراكب في مسارك كوكب المرجان والياقوت .. يلقي صوته .. هل قلت من ينمو .. على أيامه .. يسمو في مشاعر فضاء الروح والريحان قد يأتي لنا في شكل أقمطة النيازك في شراهتها لمص الماء .. حيث الضوء يعبر من كلام الصمت".

في التناص تكون العلاقة أكبر مما يتصوره الآخرون، فلا يملك المرء حياله سوى البياض الفاضح على علاقة التناص بالجسد.

فالشرقاوي في تمسكه بهذا التناص كان أكثر وعياً من بعده عنه، لأن أي تناص لم يحمِ صاحبه يكون تناصاً مزيفاً، لكن تناص الشرقاوي كما أسلفت يقع قاب قوسين من قلب الشاعر، فيفضح علاقته بالأبيض ويشير نحو جوهر الدرتين من خلال رهافة إحساس وشفافية لا يمكن لأحد سبر غورها ما لم يكن بالحب والسلام مدرك معنى العلاقة بالأشياء.

حالات وفواصل

بين حالة وأخرى، يقودك الشرقاوي نحو فاصلة الأشياء، أما أن تكون هذه الأشياء رهينة علاقة سرية لا يعرفها سوى القلب، وهي علاقة مدفونة ضمن معطيات يتعامل معها الشاعر من خلال ما يزوره من أحلام، أو من خلال تجارب أدركها الشاعر بالحدس، فلم يفصلها أو يكشفها للآخرين مخافة أن تضيع لذة الحلم من قلبه.

وبين تلك الفواصل الشرقاوي ينسج أحلامه الكونية لبني البشر، مستحضراً مرايا انعكست داخل نفسه فاحيا عبرها ذكريات تفاصيل كان بالأمس حريص على حفظ سرها، لكنه اليوم أكثر شغفاً أن يعرفها الآخرين لأنها مكون أساس في تجربته الإبداعية التي تدرجت حتى قطعت فطامها في محيط عميق، اكتشفَ من خلالها أسراراً كثيرة واستلهم منها حكايات لا تحصر، ظل فيها الشرقاوي متفائلاً بغد جديد، لأن كل السلالم التي صعد أو نزل منها لم تثنهِ عن مسيرة التفاؤل، التي كونت في تجربته الشعرية حالات ذات فواصل متحدة في جماليات المفردة الشعرية، وبسر عمق الحكمة من المعنى.

ولو اقتربنا أكثر من لغة التفاؤلية عبر قصيدة السياب "فجر السلام" واستعنا بها كمفتاح يقوينا على قراءة هذه التفاؤلية في تجربة الشرقاوي عبر دراسة الدكتور أحسان عباس لشعر بدر شاكر السياب نقدياً وهو الذي يقول حيال تجربته: "لم تكن التفاؤلية التي عبر عنها السياب وما جرى مجراها من القصائد قادرة على أن تنسي السياب أن عالمه الحقيقي يشبه الدروب والزوايا التي وصفها في "حفار القبور".

هذه التفاؤلية ظلتْ مع السياب على رغم سنين الجفاف والحزن التي عاشها كما هي باقية مع الشرقاوي في أكثر تجاربه، وقد يكون ديوانه الجديد "البحر لا يعتذر للسفن" خير سفير لعمق هذا التفاؤل وقد يكون المكمل للبعد الأخلاقي والنفسي العميق والجامع لكل تجارب الشرقاوي الشعرية.

"الحبُ يدان تقولان الفعل ..

كما قالَ الماءُ لعاطفة الطين"

ذلك السر من الطين، هو ذلك الحب الفلسفي الذي بنى عليه الشرقاوي نصه، عبر كيمياء النشوة التي تمسكَ بها منذ طفولته، ولم يتخل عنها وهو شيخ، يقلب عصارة ماضيه ويستلهم طهارة حاضرة من تلك الكيمياء المدفونة بعمق سر المعنى الذي شحذ ذاكرته ليكون أكبر شاهد على نزواته العالية بالسلام والصفاء.

"القلبُ طفلٌ

يقذفُ الحبَ على ذاكرة الأرض

ويبقى هكذا يبقى

لكي يرجعَ في الحال إليه"

نعم أنها مملكة الحلم في قلب ذلك الطفل الذي خرج بقماطه من بيوت المحرق ليكسرَ كلَ زجاج الدنيا المانع للحب، ولكيمياء سحر الذاكرة، وليفضح نبضات قلبه، دون أن يعي معنى للحسد أو الخوف.

لأن الروح الجميلة والمبدعة التي تسكن الشرقاوي هي روح مملكة حلم الشرقاوي التي لم تغلق يوماً نوافذها لأنها متصلة بالنفس التي كونت الإبداع في التجربة.

لأنه مؤمن بالحب الذي يبدأ بالعمل وبرسالة المحبوب التي قد استلهمتها مملكة الحكم القائمة في التجربة الشعرية المتواصلة عند الشرقاوي.

وكأني به قد استلهم مقولة الفيلسوف الألماني امانويل كنت .. عبر رسالته التي أشار إليها في مفهومه للروح بقوله: "الروح في العمل الفني هي المبدأ الذي يشيع الحياة فيه".

وعبر عمق ما يراه كنتُ أؤكد أن تجربة الشرقاوي الشعرية لا تختلف عنها في التجربة الكتابية إلا بوجود ملهم يقود العملية بحرفنة الأول للشعر والثاني للكتابة وأقربهم لجوهر العمل الفني ذلك القريب من الروح صاحب التكوين الفني.

فديوان "البحر لا يعتذر للسفن" وهو آخر كتب الشرقاوي الشعرية مسكون يتلك المملكة التي لم تنكسر صواريها ولم تبور بعشقها، بل هي البيت المسكون بفضاء محبة الآخرين.

تجربة شعرية ذات صوارٍ عالقة بأزرق البحر والسماء وبماء الجداول التي جعلت لها في كل يوم أمسية للعصافير.

(الأمرُ بسيطٌ جداً

أبسطُ من عرقٍ

يسترجعُ للضحكةِ ماء العين

أملأني بالحرفِ السيال

كرائحةِ الموسيقى

ارفعني للأعلى

أفتحْ حلقك

أشربني..).

بهكذا من التفاؤل، يستوحي حلمه الشرقاوي ويدعو الجميع على مائدة الشرب، فلنشرب شعراَ وحياة.

سيرة الشاعر :

علي الشرقاوي من مواليد البحرين ١٩٤٨، نبتت موهبته الشعرية وهو في مرحلة الدراسة الجامعية في العراق، أصدر مجموعته الأولى عام ١٩٧٥، ومن ثم توالت أعمال الإبداعية بالفصحى والعامية وللأطفال أيضًا.

وكتب في المسرح ولغة الحياة ولا زال بستانه خصباً.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة