الحريقُ
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٠ يوليو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
كانت سحابةً سوداء هائلة في سماء المنامة، الوقت قبيل العصر، وهو موعدٌ ترفيهي خاص لحارقي العجلات في الشوارع، لكن السحابة تظهر من بعيد عملاقةً ضخمة، متجهة نحو الجنوب، والهواء راكد، والحر شديد.
السحابة العالية جعلت المشاعر مضطربة فأي إمكانية تنتجُ مثل هذه الغيمة المعتمة التي غطتْ نصفَ الأفق الجنوبي؟
السيارات المتقدمة لمقاربة الموقع قرب تقاطع وزارة العمل في مدينة عيسى تتوجه إلى الانحصار في خط رئيسي وتتزاحم بشكل بطيء ثم لا تعود قادرة على الرجوع إلى الوراء أو السير إلى الإمام.
يتضحُ مشهدُ الحريق شيئاً فشيئاً، الغيمة العالية المتحولة إلى سحب متدفقة تبدو أنها تندلعُ من بيوت، مع صعودِ السيارات على الجسر المرتفع قليلاً قليلاً، حتى توقفتْ لنصف ساعة بدت مخيفة.
لكن السيارات ترى إنه ليس ثمة بيوت محترقة، والبيوتُ الكبيرةُ القوية القريبة من بؤرة الحريق في المدينة سالمة رغم قربها من المنطقة المحترقة الكثيفة الدخان التي غطت المكان.
الكتل الحديدية من السيارات المتراصة ضبطتْ أعصابَها بقوة شديدة، السماء من فوقها شديدة السخونة والأرض تزدادُ حرارة، والطابور الطويل من السيارات لا يكاد يمشي تحت كتلة الدخان الهائلة.
كانت لحظات شديدة التوتر، فالطرقُ مسدودة أمام الطابور الطويل من السيارات، المتوهجة، فالجسرُ المعلق المرتفع المنحني بعدئذٍ محصور بين طرق مسدودة كلها، فليس ثمة طرق جانبية وليس ثمة سوى طريق واحد، هو طريق الجسر ثم ينفتح لطريق واحد فقط، لكن الطريق الواحد الذي كان يشبه الانفراجة العظيمة، والملاذ الآمن القريب العزيز، هو نفسه يمتلئ بإنشاءاتِ طرقٍ وعمليات رصف وهدم وبناء، وثمة حشود من الحواجز التي تمنع السيارات من الخروج من هذه المصيدة المرورية والانفلات يميناً أو يساراً.
ليس أمام سواق السيارات سوى الجثوم تحت سحب الدخان، التي لم تحرك اتجاهها، فظلت تنبعُ من تلك الساحة المسماة السوق الشعبية وتصعد إلى السماء، فوق الجسر، وفوق السيارات وفوق البيوت وفوق الأرواح المتوجسة!
وكان الحريقُ في بدايته، والمياه تتدفق عليه، لكنه كان عاتياً، وبدا الدخان الأسود الفاحم تعبيراً عن سلع ذات مواد كيميائية، فليس ثمة نقطة بيضاء في هذا الدخان، وهذا الاسوداد المخيف يعبر عن منتجات الصناعة وقد غدت تلوثاً وسموماً.
حافظ السواق على قوة أعصابهم، لم تند صرخة واحدة من سائق، لم يجرِ أحدهم ويسبب اضطراباً إضافة إلى الاضطراب العام، الأبواق التي كنا نسمعها في أي ازدحام مروري لم تظهر هنا، فيما الدخان لا يزال ينطلق، والسماءُ تتوهجُ بحرارة شديدة، ولم تعد مكيفات السيارات تفيد شيئاً في هذا اليوم الشديدة الحرارة من قيظ يوليو، لكن السيارات تنساب في هذا الطريق الأفعواني الملتف بين حديد الجسر وصخوره وبين الأشياء البلاستيكية الموضوعة لتحديد الإنشاءات الكثيرة التي تبدو كحياتٍ ملتفة.
خروج السواق بهذا الهدوء والتعاون من دائرة اللهب والدخان كان يعبرُ عن مسلك وطني حضاري عميق، حيث إن الشدائد تبرزُ المعدنَ الثمين من الشخصية الإنسانية، ولم نر سيارة تقفز من أجل المصير الشخصي، أو أن يثير أحدهم الأعصاب، وحين تخرج السيارات من ذلك الطريق الثعباني المتوهج فإنها تنشد السلامة والفرح وتنطلق في الشوارع التالية شبه الخالية!
وحتى الأعشاب وراء تلك الدائرة السوداء كانت حارة!
هذا هو معدن الشخصية الوطنية تلمحها في خلال هذه الدقائق الطويلة العسيرة، فيما السوق الشعبية تمثلُ حالة أخرى، فالشخصية الوطنية التحمت بدون أي تعارف بين هذه الكائنات الجاثمة في السيارات وتشهدُ منظراً مرعباً، وتتوجسُ من الريح وربما تغير اتجاهها وربما تندفع كتل الدخان إليها! وربما تحاوطها وربما تخنقها!
لو أن أي شخص حاول الاهتمام المريض بنفسه، أو أصاب الناس بهستيريا لكانت كارثة.
مضوا رغم الزحام، وفرص العيش البسيطة، واحتمالات الخطر، لم يحولوا أشياءهم لتجارة فوضوية أو قاتلة.
طابور من السيارات يمتد على مسافة نصف مدينة كبيرة يعبر عن شعبٍ عظيم رغم مشكلاته.
.
مقالات أخرى...
- الإخوان المنشأ والتطور - (19 يوليو 2012)
- صعوباتُ التراكمِ في الخليج بالقرن الـ ١٩ - (18 يوليو 2012)
- صراعُ المحورين والثقافة الديمقراطية - (17 يوليو 2012)
- المقارباتُ الديمقراطيةُ مطلوبةٌ - (16 يوليو 2012)
- بين قطبينِ اجتماعيين مختلفين - (15 يوليو 2012)
- الدينُ والاشتراكية (٢-٢) - (14 يوليو 2012)
- الدينُ والاشتراكية (١-٢) - (13 يوليو 2012)
- ديمقراطيةٌ من دون برجوازية - (12 يوليو 2012)
- الطريقُ الجنوني للديمقراطية - (11 يوليو 2012)