نماذج فرديةٌ للخيال الاجتماعي
 تاريخ النشر : الخميس ٢ أغسطس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
ظهرت آراءٌ إصلاحية في بدايات الرأسمالية تستهدف تحجيم الاستغلال أو إزالته وتطوير حياة العاملين، وهي تقدم مقترحات فردية ومعزولة عن لوحة الإنتاج العامة، وهي جزءٌ من الدعاوى الأخلاقية.
لم يقم الاشتراكيون الخياليون بدراسة المجتمعات والتاريخ، وقراءة الرأسمالية كحقبة تاريخية، غربية ثم عالمية، فكانت آراؤهم تنبثق من ملاحظات جزئية من داخل المعمل، أو من البلد، ومن تطوره الاجتماعي الخاص، وتتوجه أنظارهم نحو الحياة الاقتصادية التي يرون فيها إجحافاً بحقوق العاملين، ويعزلون المستوى الاقتصاديَّ عن المستويات الأخرى.
إن عدم رؤيتهم للرأسمالية كحقبة، وكظاهرةٍ عالمية، وكتتويجٍ لتطور الحياة الاجتماعية الاقتصادية البشرية خلال قرون، خاصة تكوينات مثل النقد، ورأس المال، والبضاعة، وقوة العمل الخ، تجعل تصوراتهم تتجه نحو الأخلاق والتجريب الاجتماعي، ومع نمو الديمقراطية السياسية الاجتماعية، وخضوع الظاهرات للبحث والنقد والتجربة والتغيير، فإنهم طرحوا وجهات نظر لتجاوز الرأسمالية، باعتبارها مجرد مشكلة، أو أخطاء. ويمكن عبر تقديم براهين ونماذج جديدة من البنوك والمعامل يمكن أن تتعمم تجاربهم وتتغير الإنسانية.
(يرى روبرت أوين أن مصدرَ الربح هو استعمال النقود فالسلع يجب أن تُباع بنفقة انتاجها، ولكن النقود تغطي حقيقة القيمة وتسمح للبائع بالتلاعب للحصول على ثمن أكبر من قيمة السلعة وتحقيق الربح بهذا الشكل.
ولذلك فقد نادى أوين بتكوين جمعيات من العمال والمنتجين تكون المبادلة في داخلها بواسطة شهادات عمل، فكل عامل ينتجُ سلعةً معينة أو جزءاً من سلعة يحصل على شهادة تثبت أنه عمل عدداً معيناً من الساعات.)،
إن روبرت أوين لا يدرك أن القيمة هي مصدر الربح وكذلك كون العمال فقراء يبيعون قوة عملهم، وليس بإمكانهم القيام بجمعيات إنتاجية، وحتى لو حدثت تكون جزئية، وغير قادرة على تغيير البُنية الاجتماعية لنظام معين.
هنا يغدو المثقفُ مقدماً لتجربة اجتماعية جزئية تغيب عنها قراءة طبيعة النظام التاريخي، ولهذا فإن تجربة أوين بإنشاء مؤسسة اقتصادية تجريبية فيها شروط عادلة مختلقة يتحملُ هو وحده خسارتها المالية.
لدى الفرنسيين تكون الأبعاد أكبر وقريبة من السياسة:
(نادى شارل فورييه بتكوين جماعات تكفي كل منها نفسها بنفسها من حيث الانتاج، بحيث يختار كل فرد العمل الذي يروقه، فإذا نجحتْ الجماعةُ في جعل العمل جذاباً عمتْ السعادة أفراد الجماعة.
لويس بلان نادى بتكوين المصانع الاجتماعية وهي مصانع تكون مملوكة للعمال الذين يعملون بها ولا تهدف لتحقيق الربح، وإنما رفع مستوى معيشة العمال.).
المشكلة هنا إن المنتجين المعوزين لا يمتلكون إمكانيات مادية للقيام بهذا، ولا حتى إمكانية ثقافية ليفكروا بمثل هذه المشروعات، وهذه الأحلام من الممكن أن تكون مفيدة عبر تطور التعاونيات. لكنها كوسيلة لتغيير طبيعة الانتاج الرأسمالي العام تغدو غير ممكنة.
ولكن لدى الفوضوية وهي تيار فكري سياسي تقفز المسألة نحو إسقاط الدولة، وتشكيل مجتمع من المنتجين المتعاونين دون سلطة تنظيم:
(جوزيف برودون هاجم الرأسمالية لأنها تقوم على نظام الملكية الفردية، فهذا النظام يسمح في نظره للأفراد الذين يتمتعون بملكية خاصة أن يعيشوا من عمل الآخرين، فهو ينادي بإلغاءِ الملكية وإحلال ما يسميه نظام الحيازة الذي يسمح لكل فرد أن يحتفظ بقطعة الأرض التي يستطيع زراعتها بنفسه دون استخدام عمال، وأن ينشأ مصرف لإقراض صغار الصناع والتجار من دون فائدة.).
عشراتٌ من هذه النماذج المثقفة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأوربيين طرحتْ مثل هذه الأفكار وصارع التيار الفوضوي التيار الاشتراكي لعقود للوصول لفهم لكيفية التطوير الحقيقي للمجتمعات.
وكان هذا بسبب ان الوعي الاجتماعي ينمو بشكل تاريخي، عبر تراكم المعارف والتجارب، والواقع الموضوعي يشقُ طريقه، فمعاناة ملايين العمال لن تنتظر نجاح أو فشل هذه التجارب المعملية الاجتماعية لتنقية الرأسمالية، بل ستعتمد على الصراعات الاجتماعية والسياسية لانتزاع حقوق جديدة وتغيير شروط العمل، ولهذا فإن القراءة الموضوعية للرأسمالية واكتشاف سببياتها الداخلية في الانتاج والنظام الاجتماعي، بدءًا من كيفية إنتاج البضاعة إلى كيف يظهر فائض القيمة، وكيف تنمو الديمقراطية وتتصاعد أصواتُ العمال في المجالس والسلطات المختلفة، لتغيير شروط حياة الناس، هذه كلها تنتج علوماً اجتماعية جديدة وممارسات سياسية بمستوى أدوات المعرفة وبمساحة تجارب أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية باعتبارهما القارتين اللتين نما فيهما هذا الأسلوب الجديد من الإنتاج.
لقد بدأ التفكير في العلاقات التجارية والمالية من العصور القديمة، لكنها لم تتشكل كنظام متكامل إلا من القرن الثامن عشر. وسرعان ما طرح مفكرون مسألة التجاوز له، وتظل أفكارهم سابقة للتطور ومعبرة عن أفق تاريخي بازغ، لكن التجارب الفردية في الغرب تزول، لكون العلاقات الرأسمالية ترسخت، وجاءت بثمار اجتماعية كبيرة، والتناقضات الشديدة التي ظهرت في البداية أمكن التغلب على مظاهر حادة منها.
.
مقالات أخرى...
- مأساةُ الشعبِ السوري بين القوميات - (1 أغسطس 2012)
- تحديدُ (عصرنا) - (31 يوليو 2012)
- الثورة السورية.. تفتيتُ صخرةِ الجيش - (30 يوليو 2012)
- الإخوانُ المصريون من الأيديولوجيا إلى الحكم (٢-٢) - (29 يوليو 2012)
- الإخوانُ المصريون من الآيديولوجيا للحكم (١-٢) - (28 يوليو 2012)
- تراجعُ الخيالِ الاشتراكي (٢-٢) - (27 يوليو 2012)
- تراجعُ الخيالِ الاشتراكي(١-٢) - (26 يوليو 2012)
- الثنائيةُ الحادةُ - (25 يوليو 2012)
- تحديثٌ عربيٌّ جديدٌ - (24 يوليو 2012)