الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٨٠ - الثلاثاء ١٤ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٢ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

في الصميم


الدكتور غازي الزيرة





كنت دائما أعتبره إنسانا غريبا على مجتمعه وعالمه.. بل وعلى دنياه.. وكثيرا ما يضيق صدري بالدنيا ومن عليها، ولكن ما ألبث أن أعود إلى الشعور بأن الدنيا لا تزال بخير، ولا يزال الخيّرون يحيون فوق ظهرها عندما التقي هذا الرجل، أو عندما تمر ذكراه وسيرته الطيبة ومواقفه وخصاله النادرة بخيالي.. كان كل همه في هذه الدنيا أن يكون خادما للجميع بكل ما يملك وما يستطيع.. لا يفرق في خدماته بين الناس بسبب العِـرق أو اللون أو الدين أو المذهب.. فقد كان محبا للجميع وخادما لهم.. وكان يحبه الجميع، ويحلو لمحبيه أن يرددوا مواقفه الطيبة وسيرته العطرة.

كان الدكتور غازي الزيرة مدير مركز الحورة الصحي في حد ذاته بلسما لجراح الجميع ودواء لعلاج أدرانهم.. كان الجميع من كل جنسية يهفون إليه.. فقد كانت شخصية الدكتور غازي وتفــرلاد لقياه للناس وعذوبة حديثه إليهم، وحرصه على مصادقة كل من يلتقيه، ونصائحه الخالصة لوجه الله تعالى وبساطته، وتواضعه جزءا من العلاج.. إن لم يكن العلاج كله.

كان الدكتور غازي الزيرة يصر على أن ينادي على المريض الذي ينتظر دوره في العلاج بنفسه.. وكان يرفض أن تقوم الممرضة بهذه المهمة.. فإذا لم تسعفه قوة حنجرته في تجاوب المريض مع ندائه نهض إليه بنفسه واصطحبه الى غرفة الفحص.. وكان هذا الأسلوب النادر الذي تميز به هذا الطبيب والإنسان يخلق نوعا من الحميمية بينه وبين كل مرضاه.

كان كريما في كل شيئ.. كريما في الوقت الذي يفسحه للمريض.. وفي وصفه للدواء.. وفي نصائحه له.. وفي تشجيعه على المواظبة في التردد على المركز.. في فترة من حياته أقدم على فتح عيادة خارجية.. ولكنني فوجئت بعد سنوات قلائل بأنه قد أوصد أبوابها رغم كثرة زبائنها.. والسبب هو شدة كرمه وإنسانيته التي لا تقارن.

كان يستحي أن يأخذ ثمن الكشف من معظم مرضاه.. بل كان سريعا في وضع يده في جيبه ليساعد المريض الذي يشعر بأن حالته تستحق المساعدة. كان مريدوه ومحبوه من كل المستويات، وكان الجميع يستريحون اليه ويترددون عليه.. وبينهم من هم من ذوي المناصب الكبيرة والمكانة الاجتماعية العالية، لأنهم يثقون في كل نصائحه حول كيفية التعايش مع أمراضهم وأوجاعهم.

الذين تخرجوا في الجامعات المصرية وعاشوا بمصر سنوات صنفان:

الأول: يزداد حبهم وعشقهم لها.. ولا تسمع منهم سوى ترديد الذكريات الحلوة عن مصر وشعبها، ويعترفون بأفضالها في كل وقت وحين.

الصنف الثاني: يضمرون مشاعر غير مستحبة لها، لا يتذكرون من فترة عيشهم بها سوى ما هو غير طيب ونسوها تماما.. وبعضهم لم يعد اليها بعد أن حصل على الشهادة وحمل حقائبه عائدا الى أرض الوطن، ويفضلون أن يعيشوا في خصومة دائمة معها.. وأحيانا مع شعبها!

وكان الدكتور غازي الزيرة من الصنف الأول.. يعشق تراب مصر.. تنفرج أساريره كلما التقى مصريا.. أو كلما سمع حديثا طيبا عن مصر.. يحب المصريين ويحبونه.. ويصادقهم ويصادقونه.. ويسعد كثيرا كلما تمكن من تقديم خدمة لأي مصري.. تراه كبائع المسك الذي لا يملك إلا أن تشم منه ريحا طيبا.. ودائما ما تسمع منه أحاديث عذبة عن محبوبته كلما التقيته.

وكان الدكتور غازي الزيرة يملك روحا نقدية غير عدوانية.. وغير حاقدة أو ظالمة.. كان يقول لي أتابع تغطياتكم عن مجلس النواب.. ثم يقول: أرجوك لا ترهق نفسك أو تهينها هكذا.. هل ترى أنهم يستحقون منكم كل هذا الجهد؟!

قبل أن يلقى ربه بأيام زارني في مكتبي بـ «أخبار الخليج».. كان يحمل في يده أوراقا قال لي انها دليل على شكواه ضد الادارة العامة للمرور، وبرهان على أنها قد ظلمته.. ثم قال: أترك هذه الأوراق أمانة بين يديك.. ولك أن تقيمها ثم تدلي بدلوك فيها وبحسب قناعاتك الخاصة.

وشكواه كانت ذات شقين:

الأول: انه دفع غرامة مرورية من خلال الحكومة الالكترونية.. ثم فوجئ بعد أكثر من اسبوعين باحضارية من الادارة العامة للمرور تطالبه بدفع نفس الغرامة!

الثاني: قال انه يملك سيارتين، وقد قام منذ فترة بتجديد تسجيل السيارة الأولى.. ثم فوجئ عند تجديد تسجيل السيارة الثانية برفضهم التجديد لأن سيارته الأولى عليها غرامة مخالفة.

وقال: لأول مرة في التاريخ أسمع انه توجد في الدنيا ادارة مرور تسمح لنفسها وتخالف تعاليم الدين و«تزر وزر أخرى»!

ولما أشرت الى هاتين الشكوتين في احدى مقالاتي منذ أيام من دون أن أشير الى اسمه، أو أقول ان هاتين الشكوتين هما للدكتور غازي الزيرة مدير مركز الحورة الصحي غضب واتصل بي قائلا: أرجو ألا تكون فد فهمت أنني أخشى شيئا أو أحدا!

كان يحلو له دائما كلما التقينا أن يحكي لي تفاصيل مشواره المرير مع قسم تراخيص المباني حتى اضطر الى التصرف في النهاية وحصل عليه.. وكيف تم الاستيلاء على أرضه بمنطقة السيف ليقام عليها بنك أجنبي ثم لقي ربه قبل أن يسترد هذه الأرض!

المهم أن الدكتور غازي الزيرة كان يفضل أن يقضي خدماته بنفسه.. ويحل مشاكله بيديه.. رغم انه من أسرة كبيرة.. وله معارف وأقارب وصداقات من كل المستويات.. لكنه كان يكره شيئا اسمه «الواسطة» بنفس درجة كراهية أي إنسان للعمى.. وكان يحلو له أن يمارس النقد لمشواره في الحصول على الخدمة أو انجازها. وبأسلوب لا يخلو من الطرافة وخفة الظل.

رحم الله الصديق العزيز الدكتور غازي الزيرة وأفسح له في جناته بقدر ما يعمر قلبه الكبير حبا وخيرا وكرما للجميع.. وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.

«إنا لله وإنا إليه راجعون».



.

نسخة للطباعة

في مواجهة الشر .. لا مجال للصمت

أمس تشرفت بحضور مجلس سمو رئيس الوزراء بعد فترة طويلة من الغياب. وقد وجدت المجلس مكتظا بالمواط... [المزيد]

الأعداد السابقة