تركيا وفرنسا والهيمنة على العالم العربي
 تاريخ النشر : الأربعاء ١٥ فبراير ٢٠١٢
بقلم: سونر كاجابتي
لقد شارك التونسيون والمصريون في الانتخابات بعد التخلص من حكامهم المستبدين فيما أصبح النظام الحاكم في دمشق يترنح وهو يواجه انتفاضة شعبية ضارية رغم القمع الأمني الشديد. في هذه الأثناء نجد أن القوتين الامبريالتين السابقتين: فرنسا وتركيا تتصارعان من أجل فرض نفوذهما السياسي على الدول العربية التي تعيش على وقع الهزات والتغييرات. بطبيعة الحال فرنسا وتركيا ليستا الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فبعد الصراع بين الروس والأمريكان إبان الحرب الباردة من أجل الهيمنة على بلدان الشرق الأوسط والشمال الإفريقي ها هي تركيا وفرنسا دخلتا اليوم على حق الصراع على الصفقات المربحة والفرصة المتاحة لبناء جيل جديد من القادة في بلدان كانت في الماضي تدور في فلك باريس واسطنبول.
لا شك أن الصراع المحتدم على المصالح بين الدول ليس بالأمر الجديد. فمنذ إقدام الامبراطور نابليون بونابرت على غزو مصر سنة ١٧٩٨ ظلت فرنسا وتركيا تخوضان صراعا مريرا من أجل الهيمنة وبسط النفوذ على دول الشرق الأوسط، فقد تزامن صعود فرنسا كقوة في حوض البحر الأبيض المتوسط مع العوامل التي أسهمت في تراجع النفوذ التركي في البحر نفسه. وفيما راحت الامبراطورية العثمانية تنهار تدريجيا كانت فرنسا ؟ الدولة الاستعمارية - تبسط هيمنتها وتحتل الجزائر وتونس قبل أن تحتل مصر فترة وجيزة. لقد غنمت فرنسا أيضا من انهيار الامبراطورية العثمانية كلا من سوريا ولبنان عقب نهاية الحرب العالمية الأولى.
لقد تراجع الصراع بين فرنسا وتركيا في القرن العشرين وذلك عندما أصبحت تركيا دولة منغلقة على نفسها ومهتمة بمشاكلها. خلال فترة تصفية الاستعمار خسرت فرنسا سيطرتها السياسية على الأراضي التي تمتد من المغرب إلى غرب سوريا في الشرق. لقد عززت فرنسا من قوتها الاقتصادية والسياسية في المنطقة من خلال زيادة الدعم المقدم لأوساط المال والأعمال التي ربطت علاقات وطيدة مع حكام المنطقة. رغم أن تركيا كانت إلى وقت قريب ترى في فرنسا نموذجا يحتذى به، فعندما أسس مصطفى كمال أتاتورك جمهورية تركيا الحديثة سنة ١٩٢٣ اعتمد نموذج العلمانية المتوحشة الذي ينص على فصل الدين عن الحكومة والسياسة والتعليم.
لقد بسطت هيمنتها على أغلب منطقة الشرق الأوسط على مدى القرنين الماضيين من الزمن وهي المنطقة التي تشهد اليوم تغييرات لافتة. إذا نجحت تركيا في توظيف أوراقها بشكل صحيح فإنها قد تضاهي النفوذ الفرنسي أو على الأقل تتحول إلى دولة مهيمنة في المنطقة.
خلال العقد الماضي من الزمن شهدت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان معدلات قياسية وغير مسبوقة للتنمية الاقتصادية. لم تعد تركيا الآن دولة فقيرة تسعى يائسة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. تبلغ القيمة الإجمالية للاقتصاد التركي تريليون ومائة مليار دولار كما أن سلطات أنقرة لها جيش قوي تحدوها طموحات كبيرة لبناء المنطقة العربية أو منطقة الشرق الأوسط على صورتها نفسها.
في هذه الفترة تعيش بلدان الشمال الإفريقي وسوريا والعراق حالة من المخاض السياسي، كما أن أغلب الدول الأوروبية تتخبط في مشاكل مالية واقتصادية كبيرة، غير أن فرنسا وتركيا ظلتا بمنأى عنها، إن تنامي الصراع بين الدولتين يمثل السبب الرئيسي الذي جعل فرنسا ترفض بشدة مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
عندما جاء نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة في فرنسا راح يسعى إلى بناء الاتحاد المتوسطي سنة ٢٠٠٨ وتوثيق علاقته مع الاتحاد الأوروبي وتأكد بما لا يدع أي مجال للشك أن سلطات باريس لن تسمح بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أو تعطيها الفرصة كي تتحول إلى لاعب قوي في منطقة متوسطية تريد فرنسا أن تتولى زعامتها من دون غيرها.
لقد شهدت السياسة الخارجية التركية فاعلية كبيرة وراحت تبتعد عن أوروبا بشكل واضح. لذلك فقد راح حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوجان يسعى إلى إعادة إحياء الروابط مع الدول التي كانت في الماضي تحت حكم العثمانيين والتي استقلت عن تركيا خلال القرن العشرين. خلال عقد من الزمن فتحت تركيا ثلاثا وثلاثين ممثلية دبلوماسية جديدة ١٨ منها في الدول العربية والإسلامية والإفريقية.
لقد أثمرت الحركة الدبلوماسية التركية توسعا سياسيا وتجاريا كبيرا على حساب العلاقات التقليدية بين تركيا وأوروبا. في سنة ١٩٩٩، كانت المعاملات التجارية مع الاتحاد الأوروبي تمثل نسبة ٥٦% من إجمالي التجارة الخارجية التركية، غير أن هذه النسبة انخفضت إلى حدود ٤١% سنة .٢٠١١ في الوقت نفسه ارتفع حجم المبادلات التجارية مع الدول الإسلامية من ١٢% إلى أكثر من ٢٠% من إجمالي التجارة الخارجية التركية.
لقد أدت الأنماط والمسالك التجارية الجديدة إلى ظهور نخبة تجارية واجتماعية جديدة ومتحفظة في تركيا، وهي تستمد قوتها من نمو مبادلاتها التجارية مع العديد من الدول من غير البلدان الأوروبية. أصبحت هذه النخبة الثرية تستخدم ثروتها الكبيرة من أجل إعادة تشكيل ورسم المقاربة التركية التقليدية للعلمانية، فمنذ سنة ٢٠٠٢ انهار النموذج العلماني الذي استلهمه الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك من النموذج الفرنسي القائم على الفصل بين الدين والدولة. لقد راح حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه من التيارات السياسية الأخرى يعملون على الترويج لشكل من العلمانية الناعمة التي تعطي مساحات أكبر للتعبيرات السياسية في الحكومة والمشهد السياسي والنظام التعليمي نفسه، وهذا ما جعل النموذج التركي أكثر جاذبية من النموذج الفرنسي البالي في الدول العربية.
رغم أن تركيا وفرنسا كانت تداهنان وتتوددان للحكام الدكتاتوريين ؟ من ذلك مثلا أن الرئيس ساركوزي سمح للعقيد الليبي معمر القذافي بنصب خيمته في قلب باريس وقرب قصر الإليزيه بخاصة سنة ٢٠٠٧ كما أن رجب طيب أردوجان قبل «جائزة القذافي الدولية» سنة ٢٠١٠- فإن سلطات أنقرة رمت بكل ثقلها وراء الثورات العربية منذ البداية، الأمر الذي جعلها تكسب العديد من المؤيدين والمعجبين والأنصار.
قبل أن تقرر تقديم الدعم للثوار الليبيين في السنة الماضية حتى سقوط نظام العقيد معمر القذافي كانت فرنسا حتى وقت قريب تراهن على ديمومة طبيعة الأنظمة الدكتاتورية كما أنها لم تربط أبدا أي علاقات مع القوى الديمقراطية التي تعارض هذه الأنظمة. أما تركيا فإنها تكون قد فعلت ذلك بطرائق أكثر ذكاء من الأساليب الفرنسية، فقد عملت تركيا على توسيع نطاق قوتها الناعمة عبر الدول العربية حيث إنها راحت تبني شبكات المال والأعمال والتجارة وتؤسس المدارس والمعاهد التي تديرها حركة «جولين» التي تستلهم أفكارها من الإسلام الصوفي من أجل تعليم النخبة العربية المستقبلية. لقد جاء «الربيع العربي» ليوفر لسلطات أنقرة فرصة غير مسبوقة من أجل توسيع نفوذها في المجتمعات العربية التي تشهد حراكا سياسيا كبيرا.
وبالمقابل فإن علاقات المال والأعمال بين فرنسا والنخبة العلمانية القديمة بدأت تذوب وتضمحل، كما أن نفوذها بدأ يتراجع. تظل فرنسا تمثل قوة عسكرية وثقافية كما أنها ستظل تتمتع بالجاذبية الكافية وتستقطب النخب العربية بما في ذلك الأطراف الإسلامية، التي تبحث عن الأسلحة والبضائع الفرنسية الفاخرة. وبالمقابل فإن فرنسا ستجد من هنا فصاعدا صعوبة بالغة في تسويق نموذجها العلماني عبر المنطقة أو مجاراة تركيا في شبكة المال والأعمال التي تسعى إلى بنائها في الوقت الراهن، وخاصة في سوريا ولبنان والعراق، حيث تتمتع سلطات أنقرة في الوقت الراهن بثقل كبير.
رغم ذلك تظل الطريق في العالم العربي وعرة، فقد ظلت تركيا العثمانية تحكم الشرق الأوسط العربي حتى الحرب العالمية الأولى. لذلك اليوم هي تتوخى الحذر فيما تسوقه من رسائل في هذه المنطقة الاستراتيجية والحيوية من العالم. قد ينجذب العرب إلى إخوانهم المسلمين الأتراك. لكن على غرار الفرنسيين فإن الأتراك يمثلون القوة الاستعمارية الامبريالية السابقة. يتطلع العرب إلى تحقيق الديمقراطية وإذا ما اتضح أن تركيا عادت تسعى إلى فرض هيمنتها على العالم العربي فإن هذه السياسة سترتد عليها وتعود عليها بالتالي بنتائج وخيمة.
انظم مؤخرا مؤتمر كبير في جامعة «زيرف» الخاصة التي مولها رجال المال والأعمال الذين أسهموا في تحويل تركيا إلى قوة اقتصادية مهمة. توافد الليبراليون والإسلاميون العرب من مختلف الدول العربية واختلفوا حول بعض المسائل لكنهم اتفقوا على شيء: الترحاب بتركيا كقوة في منطقة الشرق الأوسط بشرط تجنب نزعة الهيمنة على الدول العربية.
في شهر سبتمبر ٢٠١١ ولدى وصوله إلى مطار القاهرة الدولي وجد في الجناح الجديد (الذي شيدته الشركات التركية) حفاوة بالغة من قبل أعداد كبيرة من المصريين وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين، غير أنه أثار استياء مضيفيه عندما راح يتحدث عن أهمية إقامة حكومة علمانية تضمن حرية الدين. لقد جاء ذاك الحادث ليظهر مدى حدود النفوذ التركي في الدول العربية التي تعتبر مجتمعاتها محافظة أكثر من المجتمعات التركية.
قد تكون تركيا صاحبة اليد العليا والطولى عندما يتعلق الأمر بالقوة الناعمة غير أن فرنسا أكثر قوة وهو ما تجلى في الحرب الأخيرة في ليبيا إضافة إلى قوتها في مجلس الأمن الدولي بما أنها من الدول الخمس التي تتمتع بصلاحية حق الفيتو. على الرغم من معدلات النمو الكبيرة والقياسية التي ظلت تركيا تحققها منذ سنة ٢٠٠٢ فإن حجم الاقتصاد الفرنسي لايزال أكثر من ضعفي حجم الاقتصاد التركي، كما أن فرنسا لاتزال الدولة المهيمنة في الشمال الافريقي.
إن الاستقرار النسبي الذي تتمتع به تركيا في وقت تشهد فيه المنطقة تقلبات وتحولات كبيرة هو الذي جعل الاستثمارات تتدفق عليها من الدول المجاورة الأقل استقرارا على غرار إيران والعراق وسوريا ولبنان. في نهاية الأمر يمكن القول: إن تركيا تعتمد كثيرا على الاستقرار السياسي والنفوذ الإقليمي المتنامي وهما أمران تتوقف عليهما ديناميكية نموها الاقتصادي.
إذا كانت تركيا تريد فعلا أن تتحول إلى منارة للديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط فيجب أن يضمن دستورها حريات فردية أشمل وأوسع لكل مواطنيها، بمن في ذلك الأكراد. على تركيا أن تسعى إلى تكريس رؤية وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو الذي ينظر لسياسة خارجية «خالية من المشاكل». هذا يعني تجاوز حادثة أسطول الحرية سنة ٢٠١٠ والعمل على إعادة بناء علاقاتها مع إسرائيل والتقارب أكثر مع القبارصة اليونانيين الذين يعيشون في الشطر الجنوبي من جزيرة قبرص المقسمة (يسيطر القبارصة الأتراك على الشطر الشمالي للجزيرة). لقد استمر الصراع هناك على مدى عقود كاملة حيث إن القبارصة الأتراك يرغبون في إقامة نظام فيدرالي مرن فيما يريد القبارصة اليونانيون إقامة حكومة مركزية قوية.
لقد أعلن مؤخرا اكتشاف الغاز الطبيعي عند سواحل الشطر الجنوبي من قبرص، وهو ما قد يمثل فرصة كبيرة. قد ترتقي تركيا فوق الخلافات والانقسامات وتقترح توحيد الجزيرة القبرصية في مقابل اتفاق على تقاسم الإيرادات، وخاصة أن تركيا تعتبر المنطقة خيارا لمد أنبوب لتصدير الغاز الطبيعي إلى الأسواق الأجنبية نظرا إلى موقعها الاستراتيجي.
.
مقالات أخرى...
- إيران.. القنبلة والربيع القادم - (14 فبراير 2012)
- الغرب ما بين غزو العراق والتدخل في سوريا - (14 فبراير 2012)
- إيران و«اللعبة الكبرى» في العلاقات الدولية - (11 فبراير 2012)
- انقسام المواقف الدولية حول الأزمة السورية - (8 فبراير 2012)
- هل تنزلق سوريا في الحرب الأهلية؟ - (8 فبراير 2012)
- أمريكا والدرس العراقي القاسي - (5 فبراير 2012)
- أي مستقبل للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ - (5 فبراير 2012)
- قراءة في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة - (27 يناير 2012)
- صعود الصين يزعزع المسلَّمات الأمريكية - (27 يناير 2012)