"حمدي عبدالرحيم" مريد يخرج عن خطى شيخه
 تاريخ النشر : السبت ٢٣ يونيو ٢٠١٢
القاهرة: ندى فوزي
بينما يهدي الروائي حمدي عبدالرحيم روايته الثانية "سأكون كما أريد" (٢٠١١) إلى الأديب الكبير علاء الديب.. شيخ الطريقة وصاحب المقام يخرج المريد عن خطى شيخه ويتمرد على مصير أبطاله، ففي روايته "أطفال بلا دموع" (١٩٨٩) يداوي منير فكار، أستاذ الأدب العربي، انكسار روحه وبعثرة أحلامه بعد هزيمة ٦٧، يجمع المال في إعارة إلى إحدى دول الخليج، وفي روايته "عيون البنفسج" (١٩٩١) يؤول ميراث التشتت والضياع من الأب إلى ابنه تامر فكار الذي يبحث عن خلاصه في عيني "كارين"، محبوبته الإنجليزية ذات العين البنفسجية التي تعرف الطريق وتتقن السباحة وسط الأمواج العاتية، أما مصطفى أبوالفتوح، الشخصية المحورية في رواية حمدي عبدالرحيم، فلا يستسلم ويتحدى الانكسارات ليعيش ويموت كما يريد هو لا كما يريد له الآخرون.
تدور الرواية حول مصطفى أبوالفتوح، مثقف من طراز خاص تتشابك في حياته جماليات الفن والأدب والثقافة وقضايا الاقتصاد والسياسة وما شهده العالم العربي من تحولات اقتصادية وسياسية، وعلى الرغم من المنهج الواقعي الذي تتخذه الرواية إطارًا لها، والذي يدور حول مصطفى أبوالفتوح ابن أحد رجال الحضرة الصوفية وأحد تجار خان الخليلي منذ طفولته وصباه، ينفتح النص الروائي على قضايا سياسية واقتصادية وسياسية تهز أرجاء الوطن العربي، وتترك بصماتها على حياة بطل الرواية، وهو مع ذلك لا ينفصل عن الإحساس بالجمال في شتى صوره: الفن والأدب والمرأة، تطرح الرواية بطلاً تتقاذفه الحياة وتدهمه التحولات الاقتصادية والسياسية في العالم العربي، ولكنه يصر على أن يملك مصيره بيده.
يستهل الفصل الأول، "زمن الروائح" بطفل وحيد مدلل - كما تحكي له أمه- يتكشف عالم الكبار ولا يتجاوز عالمه محيطه الاجتماعي الصغير المكون من والديه والجيران: حارة جعفر بجوار مقام سيدنا الحسين. هذا هو عنوان بيتنا، ابتسمت أمي في رضا وأنا أردد خلفها العنوان، مدخل البيت، ضربه نشع خفيف لم يجف أبدًا، أما بئر السلم فلا أدري كيف تجمع بين العتمة والإضاءة ربما الأمر راجع إلى بلاطها الذي يجمع بين اللونين الأبيض والأسود.
ويواصل الراوي وصف عالمه الصغير: على يمين الداخل إلى البيت رقم خمسة بحارة جعفر توجد شقة عمي "ويصا الخياط"، ليس ببيته إلا هو وزوجته "هاتي" سورية، وماكينة الخياطة وأرفف القماش وعود معلق على الحائط ينام داخل كيس أخضر... ولكن سرعان ما ينفرج على العالم وينفتح النص على قضايا سياسية يلمس الراوي/ البطل آثارها في صباه المبكر، في فصل بعنوان: "هجر جديد" يدرك تداعيات كامب ديفيد على محيطه الصغير، يقرر العم "ويصا" السفر إلى ابنه الذي بقي بالخارج ولا نية له في العودة: دخلت مع عمي ويصا بيته فوجدته كئيبًا.. دعاني إلى الجلوس بجواره على الكنبة، جاهد ليخرج صوته واضحًا ثم قال: حارب شكري اليهود لكي لا يمكثوا في سيناء، ثم جاء السادات فقدم لهم البلد على طبق من فضة، أعرف شكري جيدًا، إنه الآن مزلزل، إنه يحتاجني بجواره أسند قلبه لكي لا ينخلع من بين ضلوعه. وتتسع دائرة مصطفى أبوالفتوح ويتمكن فيروس السياسة من جسده وهو لم يزل في الثانوية العامة. يذهب مع عمه رضوان الاشتراكي الثوري وابنة عمه سوسن إلى معرض الكتاب عام ١٩٨١ وينضمون إلى مظاهرة ضد مشاركة إسرائيل في المعرض وفي طريق عودتهم يقول له رضوان: وقفتنا اليوم لن تجعلهم يشاركون ثانية، مهمتك يا أباالفتوح أن تحفظ التاريخ جيدًا، الخامس من فبراير ١٩٨١ في مثل هذا اليوم من العام القادم ستتظاهر ضدهم حتى لو لم يكونوا موجودين، وسرعان ما تدخل معجمه مفردات الحرب على لبنان: حرب جديدة وموت جديد، حرب وحزن.. جثث اللبنانيين والفلسطينيين تتدفق من نشرات الأخبار، شارون مصمم على اقتحام بيروت، مفردات جديدة تدخل معجمي: الجنوب، البقاع، صيدا، صور، بنت جبيل، أثبت خريطة لبنان أمام عيني وأتابع سير المعارك.
ويأتي غزو العراق للكويت عام ١٩٩٠ ليلقي بظلاله على النص، ففي تمام العاشرة من ضحى الخميس الثاني من أغسطس عام ١٩٩٠ بينما مصطفى أبوالفتوح يتناول إفطاره مع بائع الكتب القديمة بجوار سور الجامع الأزهر جاء صياح عم رجب صاحب مطعم الفلافل. كان الرجل يلطم وجهه بقسوة وهو يصرخ: ولدي، ولدي.. يا خراب بيتك يا رجب، عندما اجتمعنا حوله واصل صراخه وهو يشير إلى المذياع الذي كان يبث موجز أنباء العاشرة، كان المذيع متلعثمًا وهو يقول بنبرة حزينة: وصفت وكالات الأنباء توغل الجيش العراقي في أرض الكويت بأن نكبة عربية جديدة تعيد إلى الأذهان ما حدث صبيحة الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، تبقى الأحداث السياسية في مصر والوطن العربي تحفر بصماتها على حياة مصطفى أبوالفتوح وهو يأبى الاستسلام والتنازل عن حلمه بأن ينشئ دار النشر التي حلم بها والتي تقاوم بالفكر والثقافة وترفض التواطؤ أو الاستسلام، لم يلق بالاً للتهديدات التي تلقاها ممن استشعروا خطرًا مما تنشره داره من كتب تتسم بثقافة المقاومة، يقول أبوالفتوح لمن جاء يهدده ويساومه: سأموت شامخًا.. لو أطعمتم لحمي للكلاب فلن أصالح الصهاينة. وبعد أن اضطر إلى قتله نسمعه يرد في نهاية الرواية قريبًا سيأتون وينتهي كل شيء، جاءني صوت أبي ورجال حضرته، يدعونني إلى الإنشاد فأنشد:
استغفر الله عدد المزن ما هطلت
استغفر الله عدد الزهر والثمر
يقف مصطفى أبوالفتوح الذي عاش كما يريد ومات كما يريد، على النقيض من منير فكار ومن بعده تامر فكار في روايتي علاء الديب "أطفال بلا دموع" وعيون البنفسج، يقول منير فكار: ذاهب لكي أعمل في صف طويل من العبيد المقيدين من رقابهم وأرجلهمٍ، محكوم عليهم في جرائم لم يرتكبوها، لا يحق لهم أن ينظروا حولهم، جرائمهم في قلوبهم، ومن بعده يرى ابنه تامر فكار أن "أحلام الشعر مستحيلة"، الحرية والفن آفاق ليست لي، ظهورها نهاية العالم، بذوري في الأرض ميتة، تبقى الحياة بعدها خرابة أو أرضًا جرداء.
تأتي رواية حمدي عبدالرحيم صرخة جيل رفض الاستسلام وفضل الموت في صفوف المقاومة، إنها صرخة جيل قرر الثأر لأمثال منير فكار وابنه من ضاعت أحلامهم وتعففت أرواحهم.
.
مقالات أخرى...
- ما قاله الشاعر رمزا - (23 يونيو 2012)
- قصيدة للشاعر: فراق جوراخبوري - (23 يونيو 2012)
- قالوا: "المقاطعة هي الحل" مثقفون وكتاب مصريون يعتبرون فوز "مرسي أو شفيق" صدمة - (23 يونيو 2012)
- نفاد الطبعة الأولى من كتاب المسلماني "مصر الكبرى" - (23 يونيو 2012)
- أين يكمنُ السؤالُ في رواية (الرجل السؤال) لفتحية ناصر؟ (٢-٢) - (23 يونيو 2012)
- قضايا ثقافية رُبَّ مشهور لا أصل له - (23 يونيو 2012)
- الشاعر والباحث السعودي علي إبراهيم الدرورة في حديث الشعر والتراث: المثقفون أكثر الناس حزنا وتألما من الوضع الثقافي الراهن - (23 يونيو 2012)
- هارجريفز يتساءل: لمصلحة من يعمل الصحفي؟ - (23 يونيو 2012)
- صدمة كبرى تلقتها الفنانة في طفولتها غيرت نظرتها للحياة - (16 يوليو 2012)