الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٣ - السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


صدمة كبرى تلقتها الفنانة في طفولتها غيرت نظرتها للحياة





تنقلك لوحات الفنانة »أفانين كبة« من مدن الخرسانة والعمارات الحديثة، وأعمدة الفولاذ في مونتريال، وأشجار القبيقب الكندية الشهيرة، إلى نخيل العراق وصفصافه، وصحرائه، وحضاراته، السومرية والأكدية والأشورية، هذه الفنانة العراقية الأصل - الكندية الجنسية، التي تقيم في مونتريال منذ عام ١٩٨٠ـ صارت إحدى أهم فنانات جماعة الفنانين العرب في هذه المدينة، التي تسمى جمعية »لو لوفان لاَفٌّمج مج« التي ترأسها السيدة »نسب شيا« وفي العديد من معارض هذه الجماعة الفنية كانت لوحات أفانين كبة محط تساؤل الحاضرين عن أصل هذه الفنانة، التي تمزج الحاضر بالماضي، وتذكر بحضارات قديمة لها في الوجدان العالمي قيمة كبيرة، ويحاول المهتمون بها أن يعرفوا عنها المزيد من خلال ما ينعكس من وجهات نظر مختلفة عن لوحاتها، ولوحات وإبداعات فنية لفنانين قدموا من أرض المشرق.

كتبت لي الفنانة »أفانين كبة« في مراسلة خاصة عن سر اهتمامها بالتراث الفني السومري، والأكدي، والأشوري، الذي نراه ينبض بالحياة في لوحاتها، وتساؤلي عن هذه الاضافات التاريخية في لوحاتها، إن كانت من صميم الموضوع، الذي تعمل عليه ام انه تدخل حرفي منها لإظهار الهوية؟

أجابت: »ابتدأ منذ طفولتي، وقد كانت المرحومة والدتي مُدرسة تأريخ للمرحلة الثانوية، وكانت وطنية جدا، من دون أي انتماء سياسي، وكانت لها نشاطات وطنية معروفة، عندما كانت طالبة في كلية الملكة عالية في بغداد سنة ١٩٤٨ ١٩٥١ - ومنذ طفولتي ولحد وفاتها، وأنا أسمع من والدتي أحداثا وقصصا من التأريخ، وبالذات عن تأريخ العراق، وعن حب الوطن« وقد أثرت هذه القصص والحكايات بهذه الطفولة الغضة كثيرا فيما يبدو، وأحاطت انتاجها الفني بخضم كبير من الأفكار عن الماضي، وتأثيرات نفسية حقيقية في روحها، أثناء الرسم، وصار هذا التاريخ في لوحاتها ألوانا وأحجارا ولحى بابلية وأشورية، وتحول نهر دجلة في لوحاتها إلى بحر كبير تتلاطم فيه الأمواج، وفي شباك صياديه تلبط الأسماك، وتنظر إليها الحسان من شرفات مطلة عليه، وهن يمشطن شعورهن الطويلة باسترخاء، كأنما يتنسمن نسمات باردة من النهر وقت الغروب، بعد يوم صيفي قائظ«.

وتكمل ما بدأته قائلة عن صاحب أول التأثيرات فيها، وهو والدها المهندس مكي راجي كبة، الذي كان يقرأ مؤلفات لـ»جبران خليل جبران« قالت عن هذه المرحلة الحالمة، التي كونت رومانسيتها، وحلمها الدائم بالمثال، وحب ابراز الجمال، الذي خلقه الله تعالى فيما حولنا من طبيعة، ومخلوقات، وسؤالها المتكرر في جميع لوحاتها تقريبا عن معنى الوجود، وفعل الخير ومعنى الحب، والتأمل في ذواتنا لنجد فيها اجمل ما نستطيع أن نقدمه للناس، ممن يشاركوننا هذه الحياة.

قالت عن تلك المرحلة »المرحوم والدي كان يعمل في مجال الهندسة والبحث العلمي، وكان بعيدا جدا عن السياسة والدين، لكن والدي ووالدتي كانا يحُبان بولع شديد الشعر، ويقتنيان الكتب الأدبية ومن ضمن تلك الكتب كانت مؤلفات جبران خليل جبران، التي كنت في ذلك الوقت أٌجد صعوبة في فهمها، وكان والدي يشرحها لي، هذا الولع بقي معي لحد الآن، فمازلت أحب أن أتعمق في قراءة مؤلفات خليل جبران، ولها أثر كبير فيَّ كإنسانة، إذ دائماً ألجأ إلى قراءتها«.

ومن التكوين الثقافي الذي تلقته الفنانة، إلى التأطير التقني من خلال دراستها للرسم الهندسي في العراق بين عامي ١٩٧٦-١٩٧٨ وحصولها على دبلوم رسم هندسي- بغداد، وبعد ذلك حصلت على دبلوم تصميم داخلي وديكور- مونتريال ١٩٩٥-١٩٩٧ وتلقيها بعد ذلك الدروس والتدريب في مجال الرسم الحر من عام ١٩٩٧ إلى ٢٠٠٣« رحلة طويلة قطعتها الفنانة أفانين كبة لتستطيع التعبير عن نفسها بواسطة الفرشاة وتنقل لنا احساسها بالفجيعة، والصدمة الكبيرة التي تلقتها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها حين اعتقل والدها المهندس، وعذب، فرأت الشابة اليافعة آثار التعذيب على جسد والدها، وكان اعتقاله ظلما كما تقول، ولمدة سنة كاملة، فتعرفت من خلال تلك المأساة عالما آخر، عالما يمثله سجن الفضيلية في بغداد وسجن أبي غريب.

قالت عن ذلك: »عندما كنت في الخامسة عشرة تلقيت صدمة كبرى غيرت كُليا نظرتي للحياة، كانت عندما اعتقل والدي ظلماً ولمدة سنة، ورأيت وحشية التعذيب على جسده، ورأيت عالما ثانيا وأول مرة، هو معتقل الفضيلية وسجن أبوغريب، وكم يحويان من مثقفين ومظلومين، ابتدأت منذ ذلك الوقت ألجأ للرسم وللقراءة كوسيلة للهروب، أذكر عندما كنت أزور والدي في أبوغريب، كنت اُريه ما رسمت، وكان هو من شجعني على الاستمرار في عالم الفن«.

لقد صاغت الفنانة أفانين كبة من تلك المحنة الكثير من لوحاتها، ففي الكثير منها صورة وجه رجل أربعيني يظهر في شارع لا ينتهي أو بين جبال جرداء، ينظر إلى شيء مختف، وهي تقول في رسالة منها حول التأثرية في رسمها بقولها: »ما تجده في لوحاتي هو عصارة تجارب ومِحن ومراحل مررت بها وعشتها بمحاسنها ودموعها وهي التي عملت مني هذه الإنسانة اليوم، أية لوحة تراها وراءها قصة أو حدث مررتُ به أو اطلعتُ عليه وسمعتُ به«.

في جماعتها الفنية »لو لوفان لاَفٌّمج مج « في مونتريال تجد فنانين من أقطار عربية مختلفة، ومنهم، الفنان التشكيلي السوري أدهم بوزين الدين، والفنانة اللبنانية مارلين فياض، والتونسي أنور الهيبي، والمغربي عبدالرحمن بن حليمة، وفي معظم المعارض التي عرضت فيها الفنانة أفانين كبة لوحاتها في متحف جمع الفنانين والحرفيين في كوبيك عام ٢٠١١ تحت اسم الف ليلة وليلة، وفي معارض جماعية مع جماعة لولوفان »صرخة الجسر« عام ٢٠٠٩ ومعرض »الأرواح المتمردة« عام ٢٠٠٨ ومعرض »ما بين البارحة واليوم« ٢٠٠٧ ومعرض »مركز الجالية العراقية« في مونتريال عام ٢٠٠٧ ومعرض »الفن والحرية« عام ٢٠٠٦ وفي معظم المعارض التي شاركت فيها الفنانة ظهرت في الكثير من لوحاتها امرأة صغيرة حزينة تحمل ملامح العراقيات، وقد رسم التأمل فوق وجهها ما يشير إلى أسئلة خطرة عن الوجود والغربة، وعن التآلف مع ما يحيطها من طبيعة، وقد أبدعت الفنانة برسمها لتلك اللوحات، وجعلتها نابضة بقصص تحكيها عن حضارة العراق وتأريخه، وما أصاب أهله من كوارث كالفيضانات والحرائق وتدمير الجيوش الغازية لهذا البلد، وقد اتسمت ألوان لوحاتها بتأثر واضح بالمدرسة الانطباعية، مع محاولة للإيحاء بالهوية من خلال ما يدهش العين من لقى وآثار وملابس، وهيئات متوارثة من رسوم الجدران الأثرية من مدن عراقية ق

* كاتب وصحفي

moc.liamtoh@nassahlassiaf



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة