الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥١٩ - الاثنين ٢ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٢ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

زاوية غائمة


وأخيرا انطلقنا





وبعد ان ضاقت واستحكمت حلقاتها، فُرِجت، فقد عفت حكومة جعفر نميري عن بريطانيا، ورفعت العقوبات المتمثلة في وقف الرحلات الجوية بين الخرطوم ولندن، والتي كانت قد فرضتها بعد أن غضبت مما قالته إذاعة بي بي سي عن المجازر التي أعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة في ٢ يوليو ١٩٧٦، وصار في مقدورنا أن نسافر إلى لندن.. وجاء اليوم الموعود والتقينا في المطار أنا ويوسف جاد الله ومختار عثمان ومصطفى البوشي وسعاد.. وكانت سعاد معلمة وعروسا "عليها الملائكة" كما يقولون في السودان، عن كل حديثة عهد بالزواج، (يرغمون العروس على عدم الخروج من بيت الزوجية لأنها "عليها الملائكة"، بافتراض أن خروجها سيحرمها من الرعاية الملائكية، وكانت العادة الجارية في السودان والتي ما تزال سارية في بعض أجزائه، هي فرض حظر التجول على الفتاة المقبلة على الزواج، لأسابيع قبل يوم الزفاف، ومازالت هذه العبارة على الألسن رغم أن الكثير من العرائس صرن يغادرن الكوشة إلى المطارات في رحلة شهر العسل).

عندنا في أرض النوبة في شمال السودان كانوا يخصصون للعروس بيتا يسمونه "بروين نافرين نوق" أي "بيت اختباء البنات"، لأن ذلك البيت كان المكان الذي تخضع فيه الفتاة للاعتقال التحفظي، محاطة بصديقاتها وقريباتها، حتى يوم زفافها إلى زوجها، وكان محرما على صنف الرجال الاقتراب من ذلك البيت، وإلى يومنا هذا ممنوع على العريس أن يرى عروسه، في كثير من أنحاء السودان، في الأيام التي تسبق موعد الزفاف (ربما لضمان عنصر المفاجأة لأن العروس تخضع لعمليات سنفرة بخلطة عجينية عطرية تسمى "الدلكة" بكسر الدال، وهي مشتقة من الدلك، بحيث تصبح "حاجة تانية خالص" يوم الزفاف بسبب الراحة والدلكة والساونا البلدية، وهي حفرة عميقة توضع فيها عيدان مشتعلة من شجر يسمى الطلح/ الشاف، ثم يتم إخماد اللهيب وتجلس المرأة على الحفرة مغطاة تماما بالبطانيات، فيتسلل الدخان الحار إلى مسام جسمها، ويجعل البشرة ندية وطرية.. ومن الثابت بالتجارب ان حفرة الدخان تلك تساعد أيضا على تخفيف آلام العضلات والمفاصل ولهذا يستخدمها حتى الرجال المصابون بأمراض روماتيزمية)

في المطار اقترب مني زوج سعاد، وكان القاسم المشترك بيننا "العداء المعلن" لحكم جعفر نميري، وطلب مني أن "أخلي بالي منها"، وخاصة أنها تتهيب ركوب الطائرة، وكانت تلك أول مرة تغادر فيها بيت أهلها بمفردها حتى داخل السودان، فقلت له: ما تشيل هم وراها رجالة، وكان جميع أفراد تلك الشلة قد تعارفوا خلال فترات التدريب في التلفزيون السوداني المركزي وتلفزيون الجزيرة الريفي، ولكنني وقبل وبعد الصعود إلى الطائرة كنت متوجسا... كان فرحي بالسفر حذرا جدا، لأن أجهزة الدولة تفننت في عرقلة سفري، لكوني خريج سجون بسبب معارضتي للحكومة، وكنت أتوقع في أي لحظة ان يدخل علينا رجل أمن ويطلب مني مغادرة المطار/ الطائرة... ولم أتنفس الفرح والسعادة إلا بعد أن تدحرجت الطائرة في المدرج، ثم فوووو.. طارت، وقلت في سري مخاطبا الحكومة: لو أنت راجل تعالي نزليني من الطيارة... ييييهوووو.. كانت الفرحة مزدوجة لأننا كنا مسافرين إلى لندن عن طريق فرانكفورت، مما سيتيح لي التباهي بـ"زيارة" ألمانيا وبريطانيا... وفوق كل هذا كانت هناك فرحة "ركوب الطائرة"، وتذكرت عروسي التي سبق لها ركوب الطائرة، ولكنها كانت تشتهي ركوب القطارات، وتحسدني لأنني كنت أسافر بالقطار داخل السودان نحو ست مرات في السنة الواحدة.. ثم أعلن سائق الطائرة أننا بدأنا الاقتراب من مطار فرانكفورت فتحولت الفرحة إلى ذعر.





jafabbas١٩@gmail.com



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة