يوم صار اللبس المدني «مصيبة»
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٦ يونيو ٢٠١٢
جعفر عباس
بقي على رحلة العمر إلى لندن أيام قليلة، وكنت في مدني عندما قامت الجبهة الوطنية بمحاولة لقلب نظام حكم جعفر نميري، وسمعنا ان شوارع الخرطوم تشهد معارك ضارية بين عناصر الجبهة والقوات المسلحة، فقررت ومعي نفر من العاملين في تلفزيون الجزيرة الريفي التوجه الفوري الى الخرطوم للاطمئنان على أهلنا، وانطلقنا بسيارة الـ«بولمان»، وعلى مشارف الخرطوم سمعنا دوي الانفجارات والطلقات من كل الاتجاهات، فقررنا إيقاف السيارة في حي طرفي في الخرطوم على ان يشق كل منا طريقه بنفسه الى بيت أهله، وكان موقفي صعبا جدا لأن أهلي في الخرطوم بحري، وفي كل المحاولات الانقلابية يكون هناك تركيز على احتلال الجسور، ولا يمكن الوصول إلى بحري من دون اجتياز كوبري/ جسر النيل الأزرق القديم أو كوبري كوبر (القوات المسلحة)، ورأيت أن كوبري كوبر هو الخيار الأمثل، لأن الكوبري الآخر ذو موقع استراتيجي يوصل الى قلب الخرطوم في وقت قصير، وأظن أنني ركبت نحو خمس سيارات حتى وصلت، اقتربت من الكوبري.. ولم يكن من بين تلك السيارات «تاكسي» بل استوقفت سيارات خاصة ولم يخذلني أحد ممن استوقفتهم، لأنهم تفهموا حالتي، وكان كل منهم يتعهد بتوصيلي الى نقطة معينة على أن «أدبر حالي» بعدها، وهكذا تدبرت حالي إلى أن وصلت الى الجسر، وفوجئت بأنه خال تماما من حركة المرور، وليس به وجود لقوات من اي من الطرفين، ومشيت على الكوبري وركبي سايبة وتصطكّ مع صوت كل قذيفة.. فتلك كانت المحاولة الانقلابية الأولى في تاريخ السودان التي ينفذها أشخاص بملابس مدنية، وبما أنني كنت أرتدي ملابس مدنية، فقد كان من الوارد - في حال مروري بقوات موالية لنميري - أن يحسبوني من الانقلابيين ويطخّوني، ولهذا حرصت على أن ابدو مهندما وأنيقا بـ«تمليس» قميصي وشعري، بحيث ان من يراني سيستبعد أن أكون خارجا او هاربا من غمار معركة.
وكان الوصول إلى الخرطوم بحري عبر كوبري كوبر يعني مضاعفة المسافة إلى بيتنا في حي المساكن الشعبية، مقارنة بما لو ذهبت اليها عبر الكوبري القديم، وفي «وسط» الكوبري أصابني شلل كامل، فقد كانت هناك شاحنة متفحمة، وتحتها فجوة كبيرة تستطيع رؤية ماء النيل من خلالها، وكان واضحا أنها احترقت بسبب شحنة من القذائف انفجرت لسبب أو لآخر وهي محمولة عليها.. ولكن دماغي لم يكن مشلولا، فقد نبهني الى ان الوقوف بالقرب من الشاحنة تلك سيجرّ عليّ البلاوي، فصرت بطلا أولمبيا واجتزت ما تبقى من الكوبري خلال ثوان معدودة، وتفاديت الطريق الرئيسي الذي يربط ضاحية كوبر بالخرطوم بحري ودخلت الحي السكني ومنه الى المنطقة الصناعية، وفي نقطة معينة كان لا بد من مغادرة تلك المنطقة لاجتياز حي «المزاد»، وفور خروجي منها، وعبوري لقضيب السكك الحديدية، استوقفتني سيارة جيب على متنها عدد من العساكر: يا زول ما عارف انه في حظر تجوال؟ كانت الشمس قد بدأت تميل الى المغيب فقلت لهم: إنني لم أسمع بحظر التجوال لأنني قادم من خارج الخرطوم.. وسألوني: طيب إيه وداك المنطقة الصناعية؟ فسردت عليهم حكايتي ومشواري من طقطق لسلامو عليكم.. وصدقوا حكايتي ونصحوني بتفادي الشوارع الرئيسية، لتفادي الاعتقال او حتى الموت، فقلت لضابط من المجموعة: من يضمن لي أن أن جماعة منكم لن يعترضوا طريقي من دون ان يصدقوا حكايتي؟.. فكر الضابط قليلا وقال لي: اركب.. وركبت في الجيب العسكري وكان كل من رآني وأنا جالس وسط العساكر يحسبني أسيرا من المجموعة الانقلابية.. وأوصلوني الى بيتنا.. وظللت سنوات أبصبص في وجه كل ضابط يمر بي على أمل أن ألتقي ذلك الضابط وأشكره، ولكنني لم أوفق في ذلك.. على كل حال أشكره إذا كان حيا وأطلب له الرحمة والمغفرة إذا كان ميتا.
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- حسبت نفسي «خطيرا» - (25 يونيو 2012)
- الإفلات من الطرشقة - (24 يونيو 2012)
- أجهضوا حلمي - (23 يونيو 2012)
- من الحمار إلى الطائرة - (22 يونيو 2012)
- كانت لنا إنجازات رائدة - (21 يونيو 2012)
- وصية أمّي تناقض وصايا الأصدقاء - (20 يونيو 2012)
- رحل الاستعمار.. وواصلنا مبايعته - (19 يونيو 2012)
- رحلة لندن ثبتت رسميا - (18 يونيو 2012)
- إلى بريطانيا على حساب ألمانيا - (17 يونيو 2012)