الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٣٨ - السبت ٢١ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

بدأَ بالصراخ وانتهى بالصمت







منظوماتُ التحولاتِ القومية الاجتماعية العالمية بدأت كلها بالصراخ، وعبرَ شعاراتٍ حادة صاخبة، وتم الترويج لها عربياً، وقد شكلتْ نهضاتٌ قومية حكومية داستْ الملايين بشعاراتها في التحول والبناء.

في خضم هذا الفيضان العالمي شكلت الحماسة إحدى أدوات الخصب، خاصة لدى الشباب وقدموا أوقاتهم وأجسادهم في سبيل تحولات مجتمعاتهم.

كانت موجاتُ تحررٍ من الاستعمار وقد استفادتْ منها الطبقاتُ العليا، مؤسِّسة رأسماليات الدول الشرقية المختلفة، ولكن الشباب المزدهرين بالصراخ والشعارات والصراعات الجانبية لم يتطوروا فكرياً، ولم يتابعوا أفكارهم بأدوات تحليل، وبمناهج معرفة؛ كانت قراءاتُ العمال شديدةَ البساطة والتسطيح، والمثقفون يتغلغلون أكثر في مواد المعرفة، لكن جانب الحفظ وترديد العموميات من الكراريس هو الغالب لديهم، ومازال بعضُهم يؤمن بأن ثمة نموذجا للاشتراكية قد حدث، وأن النواقصَ والخيانات هي السبب في زواله، وقد وصلت هذه المحفوظات حتى لقادة أحزاب كبار، خاضوا نضالات باسلة وتضحيات جساماً، وسيطرت عليهم منطقةُ الغموض غيرُ المدروسةِ في الماركسية ذاتها، وغدا خيال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية شعاراً مقدساً، ولم يكن حتى مارشيه سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي الراحل في مدحه لانجازات القطاعات العامة المبهرة في الدول الشرقية (الاشتراكية) يقدرُ على إعادةِ التحليل للتجربة، وقراءة سيرورة البشرية بين مستواها الرأسمالي المتقدم في الغرب ومستواها الرأسمالي المتخلف في الشرق، وكان الحزب الشيوعي الفرنسي نفسه جزءا من هذه التحولات، والعودة للتحليل ورؤية خطأ الانفصال بين الاشتراكية الديمقراطية والأممية الثالثة، يعني إلغاء تاريخ الحزب واعتباره خطأً.

بالنسبة الى الفرنسيين تغدو المسألة أكثر سهولة من دول كبيرة وتجارب نضالية تجذرت في الأرض مؤسسات وتنظيمات. إعادة النظر هنا تغدو هي العودة الى التعددية وتداول السلطة ونسبية الحقيقة، أما المكابرة فتؤدي الى دول شمولية عسكرية تقود المجتمعات لحروب أهلية طاحنة حيث تصعد آسيا الآن بأنظمتها الخطيرة هذه.

وكلما تأخر الإصلاحُ غدت الفاتورة أكبر، وهذا ينعكس على الكثيرين الذين خاضوا في هذه التجارب، والذين تجمدوا عند هذه القوالب، والأثمان الباهظة التي يدفعونها هي الانقطاع عن الواقع، والعيش في عالم افتراضي موهوم، لهذا ينتقل هؤلاء الكهول للدين فجأة، كإحدى خيارات عدم التطور والعودة الى المسار العادي للحياة، بلا مقدمات بحثية في تاريخ الدين أيضاً، فتسحبهم مشكلات الحياة للجمود، وتعجز أفكارهم عن الإجابات عن أسئلة الزمن الراهن، والزمن الماضي كذلك.

والشكل الديني هو خيار الرأسمالية الفردية الغالب، وهو متابعة المادة الخام للعصور القديمة، وتغدو خطراً آخر عبر استعمالها في السياسة والعودة الى الوراء وكسر كل القيم التحديثية التي دافع عنها هؤلاء الشباب سابقاً.

ونماذج المحطمين من الحلم كثيرة.

إنهم لا يقوّمون تطوير أفكارهم السابقة، والعودة الى أدوات البحث، وليس للنصوص، وأن يساهموا في الحفر، وأن يشتغلوا على الدراسات الكلاسيكية لتواريخ بلدانهم وتجاربهم الاجتماعية، ولكن ذلك صعب على الكثيرين، والذين يبقون لاتزال شُعلُ الحماسِة فيهم ذاتيةً هوجاء، فأناهم المتضخمة لا تسمح لهم بالانسحاب، والاعتراف بمحدودية مستواهم المعرفي.

إن رأسماليات الدول الشرقية الشمولية تنتقلُ بتناقضاتها إلى مستويات جديدة متنوعة، بعضها خطر جداً كما سبق القول، وتحتاجُ الى خطابات سياسية ديمقراطية جبهوية واسعة، من أجل عدم الارتداد لمستويات أكثر محافظة وأكثر تمزيقاً للبلدان، وأكثر جنوناً من الناحية العقلية.

الذي يبدأ بالصراخ وينتهي بالصمت رغم سلبية مساره الشخصي أكثر معقوليةً من الذي يبدأه صراخاً وينهيه صراخاً، فهو إذ لا يعرف عناصر شخصيته ولا عناصر الأفكار الخاطئة التي عاشها، والتي لم يحللها وينقدها ويتجاوزها، يعيش حالة تدمير ذاتية وخارجية، ويساعد القوى التي يحاربها والمتسعة الحضور حالياً، وتغدو (الأنا) هي المبرر الوحيد للوجود، الذي لم يتسم بالتواضع والموضوعية.

فالعناصر الأشد ضرراً والمتنامية في بعض البلدان المتضخمة ذاتياً هي الأخرى، تطلق قوى عادية شعبية لم تعش فترات تعدد وتنوير وتتداخل مع أشد أشكال الدول الخطرة المستعدة لمغامرات رهيبة.

الأحزاب التي كانت أدوات نضال الناس للعقلانية والديمقراطية اهترأت من الداخل، وهي كانت أدوات لمنع المغامرات السياسية، وغزاها الفيضُ العامي المتخلف، وأنهكتها ضرائبُ الصراع، وتفتت، بسبب غياب تراكمية الثقافة الديمقراطية العقلانية، ونموذخ الصارخ المسيطر هو شكل للأزمة ومظهر شخصي لها.















.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة