الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٠ - الاثنين ٢٣ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٤ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الأمن القومي العربي في العهد الناصري كان سياسيا واقتصاديا وعسكريا





أكد محللون سياسيون أن الوقت الراهن بات أكثر إلحاحا للأخذ بمفهوم الأمن القومي العربي، كما جسدته ثورة ٢٣ يوليو وزعيمها الرئيس جمال عبدالناصر، فمفهوم «ناصر» للأمن القومي العربي يقوم على امتلاك الأمة العربية لإرادتها السياسية، وعناصر قوتها المادية والمعنوية، وقدرتها على أن تكون قوة رئيسية فاعلة في إعادة تشكيل العالم.

د.محمدالسعيد إدريس، الخبير الاستراتيجي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، قال: إن الجهود من الضروري أن تتضافر من أجل احتفال لائق بالثورة، الذي لا يمثل تعبيرا عن تمسك شعب مصر بثورة يوليو فحسب؛ إنما ثورة يناير أيضا، التي تعتبر امتدادا طبيعيا لها حيث اتفقتا في الأسباب والنتائج، وكذلك وجود الرمز العسكري في الحالتين.

مؤكدا أن ثورة ٢٣ يوليو كانت حدثا بارزا في تاريخ الأمة العربية التي كانت معظم دولها رازحة تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، فكانت هي الشعلة التي ألهبت ثورات التحرر من الاستعمار في شتى أرجاء الأرض العربية، وأبناء مصر أدركوا أن خطورة المستعمر لا تكمن في جيوشه الحاشدة، وإنما في العملاء الذين يعملون تحت حمايته، وعلى رأسهم النظام وأحزاب الأقلية الفاسدة، فالجيش قبل ثورة يوليو كان أداة البطش والقمع في يد الملك، وأن خطة جمال عبدالناصر كانت تعتمد على أن ينزع عن الجيش ولاءه للملك، ليصبح جيش الشعب، وكان تعبير عبدالناصر أصدق وصف حين قال: «كنا نحن الشبح الذي يؤرق به الطاغية أحلام الشعب، فأصبحنا الأداة التي تحقق أحلام الشعب».

وأكد د. السعيد إدريس أن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كانت نقطة التحول الفاصلة والرئيسية في تأكيد عروبة مصر، لأن أول من نادى بعروبة مصر بصورة واقعية وعملية هو جمال عبدالناصر، الذي جعل مصر قاعدة ثورية عربية لمساندة كل الثورات العربية، والتصدي لكل الأحلاف الغربية المشبوهة التي تعمل على وأد حركة تحرر الشعوب العربية، ونهب ثرواتها، كما تصدى لإسرائيل مما جعل العرب يبايعونه زعيما وطنيا.

وقال: إذا كانت المؤامرات والدسائس حاولت أن تنال من عبدالناصر، فإن المبادئ التي عاش من أجلها وبذل حياته في سبيل تحقيقها، وفي مقدمتها تحقيق الأمن القومي العربي، لن تموت وما تعانيه الأمة العربية من ضعف مهين وضياع هيبة لا خلاص منه ؛ إلا إذا اجتمع شملها وتوحدت كلمتها وحافظت على أمنها القومي مسترشدة في ذلك بالمفهوم الناصري.

وشدد على أن ثورة يوليو أدركت منذ قيامها الهوية العربية، وأن عبدالناصر حرص على إبرازها فأصدر كتابه «فلسفة الثورة» الذي أشار فيه إلى ٣ دوائر تحكم توجه مصر وحركتها وهي: الدائرة العربية، والدائرة الافريقية، والدائرة الإسلامية، وعبدالناصر أعطى الأولوية للدائرة العربية التي يقول عنها: إنها تحيط بنا وامتزج تاريخنا بتاريخها.. ويخلص عبدالناصر إلى تبصير الأمة العربية بمدى قوتها وطاقاتها وإمكاناتها فيقول: «سأظل أقول دائما إننا أقوياء، لكن الكارثة الكبرى أننا لا ندرك مكامن قوتنا».

وأشار الخبير العسكري والاستراتيجي إلى أن عبدالناصر حدد ثلاثة مصادر رئيسية لقوة الأمة العربية، الأول: إننا مجموعة من الشعوب المتجاورة المترابطة بكل رابط مادي ومعنوي، فلشعوبنا خصائص وحضارة واحدة، لا يمكن إغفالها، والثاني أرضنا وموقعنا الاستراتيجي المهم، والثالث البترول الذي دونه تتحول كل أدوات أوروبا إلى قطع من الحديد يعلوها الصدأ.

وجاءت وثائق الثورة بعد ذلك لتؤكد في أول دستور يصدر عام ١٩٥٦ انتماء مصر العربي، حيث قال الدستور: «إن مصر دولة عربية ذات سيادة، والشعب المصري جزء من الأمة العربية».. وهذه أول مرة ينص فيها على انتماء مصر العربي في دستورها، الأمر الذي وصفه ساطع الحصري المفكر القومي البارز بأنه حدث مهم يستحق التسجيل لنشوء فكرة القومية العربية في مصر.

قدرة الأمة

وأوضح المؤرخ د.عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب جامعة حلوان أن الأمن القومي هو قدرة الدولة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، والتغلب عليها لكي تعيش عضوا في المجتمع الدولي على قدم المساواة مع بقية الأعضاء، موضحا أن عبدالناصر بلور مفهومه للأمن القومي العربي عقب عودته من حرب ١٩٤٨، في امتلاك الأمة العربية لإرادتها وقدراتها، عندما قال: «إن المعركة الحقيقية يجب أن تبدأ من القاهرة وكل العواصم العربية من خلال تحرير الأمة العربية من النظم الفاسدة التي كانت تسيطر عليها».

وأكد أن استراتيجية ثورة يوليو كانت تقوم على أن مصر هي قاعدة الأمن القومي العربي وأن تحرير الإرادة العربي أساس بناء الأمن القومي، موضحا أننا نواجه الآن استعمارا جديدا، وأن إسرائيل هي القاعدة الحقيقية لتأمين هذا الاستعمار الأمريكي الجديد الذي يريد أن يرث المنطقة العربية، ولا يتوقف عن التآمر ضد مصر والأمة العربية منذ معركة ١٩٥٦، التي اعتبرت نهاية الاستعمار وسقوط الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

وأوضح أنه رغم أن العرب في مواجهة غير متكافئة مع الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي منذ عام ١٩٥٦ ورغم أن كل المستعمرين قد لقوا حتفهم على أيدي العرب، فإنهم في مواجهة الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي لم يستسلموا بعد، فالانتفاضة الفلسطينية كانت تحديا غير مسبوق في التاريخ، أن يواجه شعب أعزل أقوى قوتين في العالم، ويظل صامدا للعام الثاني على التوالي، فهذا أقوى دليل على حيوية الأمة وقدرتها على الصمود، حتى في أقسى الظروف، فعبدالناصر كان يرى أن لدى العرب كل المقومات لكي يصبحوا قوة رئيسية في العالم، تقوم بدور أساسي في إعادة تشكيل هذا العالم. إن الأمن القومي العربي في فكر عبدالناصر يعتمد على انتماء المواطن العربي لأرضه واستعداده لبذل حياته من أجل الحفاظ على استقلالها، كما يعتمد أيضا على النظام السياسي وقدرة الأمة على تطوير العناصر الإيجابية والتغلب على العناصر السلبية.

الأمن المستباح

وقال اللواء طيار أركان حرب متقاعد محمد زكي: إذا نظرنا لأوضاعنا الراهنة نجد أن هناك استباحة للأمن القومي العربي من جانب إسرائيل، وهذه الاستباحة لم تبدأ من فراغ وإنما جاءت نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية العربية على المستوى القومي، لغيبة مفهوم الأمن القومي العربي الذي رسخه جمال عبدالناصر وجسدته ثورة يوليو بممارساتها.

وأوضح أن هناك أربع محطات رئيسية ساهمت في ترسيخ مفهوم الأمن القومي العربي هي اتفاقية الجلاء عام ١٩٤٥، التي حققت لمصر حرية الحركة الاستراتيجية تجاه التهديد الرئيسي للأمن القومي العربي وهو إسرائيل، فإسرائيل كانت تبذل جميع جهودها لمنع إتمام الاتفاقية لإبقاء الحاجز الذي يفصل بينها وبين مصر، وهو القوات البريطانية في قناة السويس، والثانية كسر احتكار السلاح والتوجه نحو الشرق بداية من الصفقة التشيكية، مما سمح ببناء الجيش المصري بصورة لم تحدث من قبل، كما أعطى مصر حرية الحركة العسكرية، مما أتاح لها ظروفا إيجابية، وأدى إلى تنمية العلاقات المصرية السوفيتية، مما أصلح الخلل في التوازن العسكري بين مصر وإسرائيل، فالسلاح الذي حاربت به مصر وسوريا في حرب أكتوبر ١٩٧٣ كان سوفيتيا بالأساس، أما المحطة الثالثة فهي الوحدة بين مصر وسوريا، التي أعادت التوازن الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل، ففي عام ١٩٦٠ هددت إسرائيل سوريا وحشدت قوات على حدودها، فقامت مصر بحشد قواتها في سيناء، فانتهى التهديد الإسرائيلي لسوريا بلا حرب، لأن إسرائيل كانت تعلم أن ميزان القوى لم يكن في صالحها، لأن الوحدة أوجدت إرادة موحدة.

وكانت المحطة الرابعة محطة حرب أكتوبر ١٩٧٣ فأول مرة في تاريخ العرب الحديث، تتوحد الإرادة القومية على الجانب الفكري والسياسي والاقتصادي، حيث وجدنا مصر وسوريا تواجهان إسرائيل بقيادة واحدة وإرادة واحدة، وكان لتوحد هاتين القوتين دور في تشتيت الجهود الإسرائيلية وميل ميزان القوى لصالح العرب.

وفي مقابل هذه المحطات الإيجابية هناك ثلاث محطات رئيسية سلبية في مسيرة ثورة يوليو والأمن القومي العربي أولاها التدخل المصري في اليمن ابتداء من ١٩٦٢ حتى ١٩٦٧، الذي استنزف القوات المسلحة والميزانية المصرية بدرجة كبيرة، وأوجد استقطابا عربيا، حيث انضم بعض الدول إلى مصر مثل الجزائر وسوريا وانضم بعض الدول الأخرى إلى السعودية مثل الأردن والمغرب، وإذا كان هناك جانب إيجابي للتدخل المصري في اليمن تمثل في تحرير جنوب اليمن، إلا أنه على الجانب العسكري كان له دور سلبي، والثانية انزلاق عبدالناصر إلى حرب ١٩٦٧ مما أدى إلى حدوث خلل في الميزان العسكري لصالح إسرائيل.

وأكد اللواء زكي أن بعض مواد اتفاقية كامب ديفيد أفرغت الأمن القومي العربي من القوة العسكرية المصرية، مما أضعفه كثيرا، لأن إخراج مصر من منظومة الأمن القومي العربي، أشبه في خطورته بإخراج أمريكا من حلف الأطلنطي ؛ الأمر الذي أضعف الأمن القومي العربي بالشكل المهين الذي نعانيه الآن.

وشدد على ضرورة تصفية الخلافات العربية بغض النظر عن طبيعة الأنظمة العربية، ووحدة الإرادة العربية ووحدة الهدف، فالإرادة العربية اليوم مفتتة، وهناك من يهتمون بالأمن المغاربي، والأمن الخليجي على حساب الأمن القومي العربي الشامل، وتعديل الميزان العسكري بين العرب وإسرائيل بزيادة التعاون العسكري بين الدول العربية، ثم بناء القدرة الذاتية العربية، فالأمن العربي لا يمكن أن يعتمد على حماية دولة أجنبية، لأن ذلك يعود بالعرب إلى عصر المحميات، مما يؤكد ضرورة تنمية القوة الذاتية العربية، وتنمية القدرات الشاملة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا، والاستمرار في جهود التسوية حتى لو كانت بلا نتيجة، كسبا للوقت حتى يتم تعديل الميزان العسكري الاستراتيجي المختل.

مشروع متكامل

وقال اللواء سامح سيف اليزل الخبير العسكري والاستراتيجي: إن ثورة يوليو كان لديها مشروع قومي عربي متكامل له مفرداته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ إلا أن البيئة الدولية والإقليمية الحاكمة حالت دون تحقيق هذا المشروع، فالثورة أنجزت إنجازا اقتصاديا بالغ الأهمية على المستوى القومي العربي، فقد نجحت في إثارة الوعي والاهتمام بتحرير الإرادة الاقتصادية العربية وتأكيد تحرير القدرات والثروات العربية.

وأشار إلى أن ثورة يوليو بدأت عمليات التمصير قبل عدوان ١٩٥٦، ثم بدأت بعده تعميق هذا المفهوم الذي كان استراتيجيا وطنيا اقتصاديا حاكما، يعمل على أن يسيطر أبناء الوطن على مقدراتهم الاقتصادية، موضحا أنه عندما طرحت الثورة مفهوم التصنيع كانت تطرح مفهوما أساسيا للأمن الاقتصادي العربي.

وقال اللواء سيف اليزل: إن مؤشرات نمو الاقتصاد المصري والتنمية البشرية المصرية عام ١٩٦٤ كانت تؤكد دخول مصر إلى آفاق جديدة واسعة من التقدم والتطور، فالتعليم ونسبة الجامعيين مقارنة بعدد السكان كانت أكثر من نسبة خريجي الجامعات في ألمانيا، وكانت مؤشرات نمو الاقتصاد المصري تصل إلى ضعف مؤشرات اقتصاد كوريا الجنوبية برغم المساندة الأمريكية القوية لكوريا في ذلك الوقت.

إن ثورة ٢٣ يوليو أكدت مجموعة من الثوابت كانت تمثل دائما عناصر القوة والإرادة المصرية الفاعلة عبر التاريخ، وأهمها أن قوة مصر تنبع من قدرتها على السيطرة والتفاعل والتعامل مع مجمل العمق العربي، وإدارة شئونها الاقتصادية والتجارية من واقع أنها بؤرة التعامل في المنطقة، فمصر دائما تفقد قوتها وفاعليتها ودورها عندما تضعف اقتصاديا، وهذه هي عقدة ثورة يوليو في تعاملها مع الأمن القومي العربي، فالثمن الاقتصادي الذي تحمله الاقتصاد المصري في حرب اليمن، انتقص من قدرة الاقتصاد المصري على التطوير والانتعاش، والحال نفسه في حرب ١٩٦٧ التي أرغمت مصر على توجيه كل قدراتها وطاقاتها نحو المعركة مع إسرائيل.



















.

نسخة للطباعة

«ربيع عربي».. أم «نهب العرب»؟

في هذا الأسبوع, أتيح لي أن أحضر جلسة رمضانية، كان الحضور فيها محدودا في مجلس سمو الشيخ علي بن خليفة آل ... [المزيد]

الأعداد السابقة