الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٨ - الثلاثاء ٣١ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب

سوريا تقسم العالم









لقد أحدث الصراع الدامي في سوريا شيئا أكثر أهمية من مجرد الاختلاف في الرأي حول التدخل، أي أكثر أهمية من الجدل الدائر حول ما إذا كان يتعين على مجلس الأمن الدولي أن يبيح اللجوء إلى استخدام القوة. إن سوريا تمثل اللحظة التي يجب على الغرب أن يتوقف عندها ويدرك أن العام قد انقسم إلى شطرين. فهناك من ناحية أولى تحالف هلامي يضم القوى الديمقراطية الرأسمالية الغربية التي تجد نفسها في مواجهة دولتين دكتاتوريتين: روسيا والصين اللتين تمثلان ظاهرتين جديدتين في القاموس السياسي حيث انهما تجمعان ما بين اقتصاد السوق من ناحية والدولة البوليسية من ناحية ثانية. إن هاتين الدولتين سوف تستمران في دعم مثل هذه الأنظمة الشمولية والاستبدادية أينما وجدت لأن ذلك يصب في مصلحتهما.

لقد تحول الوضع في سوريا خلال الأشهر الستة عشر الماضية من انتفاضة تشمل بعض المدن والأحياء إلى حرب أهلية مفتوحة. أما اليوم فقد تحول الوضع في سوريا إلى حرب بالوكالة بين القوى العظمى، فقد ظل الروس يسلحون نظام دمشق (أنظمة الدفاعات الأرضية السوفيتية الصنع هي التي أسقطت الطائرة التركية) فيما كثف الغرب من تزويد المعارضة السورية بالسلاح. تتدفق الأسلحة إلى الداخل السوري عبر الحدود مع لبنان وتركيا والعراق والأردن. أما وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السي آي إيه فقد عهد إليها بالمهمة الصعبة المتمثلة في التأكد من وصول الأسلحة إلى الأيدي المناسبة وعدم سقوطها بالتالي في أيدي أتباع تنظيم القاعدة. ما هي هذه الأيدي المناسبة؟ لا أحد يمكنه أن يعرف على وجه الدقة.

يبدو أن الغرب يعتمد على الاستراتيجية التالية السعي لتحقيق التوازن العسكري داخل سوريا من دون دعم الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الأطلنطي للدخول في مواجهة عسكرية مباشرة ضد حماة بشار الأسد في موسكو. يبدو أن هذه الاستراتيجية قد بدأت تؤتي أكلها وترجح كفة الميزان لفائدة المعارضة المسلحة التي بدأت تتحول تدريجيا إلى قوة قتالية لا يستهان بها أثخنت نظام بشار الأسد والقوات النظامية الموالية له وكبدتها خسائر فادحة. لقد فقد نظام دمشق السيطرة على العديد من القرى كما أن المعارضة المسلحة قد نجحت في نقل المعركة إلى العاصمة دمشق من خلال تفجير مبنى الأمن القومي، الأمر الذي أدى إلى مقتل العديد من كبار رموز نظام بشار الأسد.

ازدادت أيضا وتيرة الانشقاقات في صفوف الجيش النظامي وبقية الأجهزة الأمنية وقد طالت بعض المقربين من النظام وكبار الجنرالات العسكريين، في مؤشر يدل على أن نظام بشار الأسد قد بدأ فعلا يفقد مفاصله وقدرته على إثارة الرعب، فالمجندون لا يلبون نداء الواجب كما أن الضباط السنة يلازمون بيوتهم، الأمر الذي جعل الأقلية العلوية تتحمل عبء الدفاع عن بقاء النظام البعثي الذي ظل يحكم سوريا بقبضة حديدية على مدى أربعة عقود.





لقد أصبح النظام وخصومه يخوضون المعركة الحاسمة بشراسة كبيرة لعلم كل طرف بما ينتظره في حالة الهزيمة. لقد وصلت نيران الصراع إلى تخوم وأحياء دمشق وقد لا تنتهي الحرب إلا إذا التهمت ألسنتها قصر بشار الأسد نفسه.

في الوقت الذي تحقق فيه المعارضة المسلحة هذه النجاحات في الداخل تظل القيادات السياسية المعارضة في المنفى تعاني الانقسامات وحالة من الاستقطاب الحاد ولا أدل على ذلك من حالة الفوضى التي سادت الاجتماع الذي عقدوه مؤخرا في القاهرة بتنسيق من جامعة الدول العربية وبعض الأطراف الدبلوماسية الأخرى، فالأكراد السوريون على سبيل المثال يريدون أن يستنسخوا تجربة أكراد العراق ويطالبوا بالتالي بالاعتراف بهويتهم القومية في سوريا ما بعد نظام بشار الأسد، الأمر الذي رفضته بقية الفصائل السورية المعارضة.

لعل ما زاد من صعوبة المساعي الرامية إلى بناء جبهة موحدة لبناء سوريا ما بعد نظام الأسد تفاقم الانقسامات على أساس العشائرية والقبلية والانتماءات العرقية. لقد اتضح أن الأسد الأب والابن كانا أكثر دهاء من عائلة القذافي في زرع الانقسامات في صفوف المعارضة السورية في الخارج حتى تظل ضعيفة.

في ليبيا نجح ثوار بنغازي منذ البداية في إنشاء إدارة انتقالية مؤقتة أعطت حلف الأطلنطي الغطاء اللازم حتى يباشر في عملية تغيير النظام في طرابلس وهو ما لم يتحقق في سوريا؛ فمن وجهة النظر الغربية هناك اليوم حرب بالوكالة في سوريا من دون وجود وكلاء موثوق بهم. وبقطع النظر عن طبيعة النظام الذي سيقوم على أنقاض نظام بشار الأسد فإن قادة المسلحين هم الذين سيرسمون معالمه من دون أن يدينوا بشيء كثير إلى حلف الأطلنطي أو الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك فإن الغرب قد لا يكون له تأثير كبير في طبيعة النتائج والتداعيات السياسية لفترة مع سقوط نظام بشار الأسد.

تتواجه القوى العظمى بأجنداتها ومصالحها الحيوية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر الأكثر هشاشة في العالم، علما أن الأزمة السورية قد بدأت تتسبب في زعزعة الأوضاع السياسية الداخلية في كل من الأردن والعراق وخاصة في لبنان. لا ترغب روسيا ولا الولايات المتحدة الأمريكية في تصعيد المواجهة من أجل إنهاء الحرب الأهلية غير أنهما تحركان الأوضاع من وراء الكواليس وهو ما يذكرنا بالأساليب التكتيكية التي سادت فترة الحرب الباردة. تتوخى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أيضا في المواجهة الثانية بينهما التي تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني في وقت يهدد فيه نظام طهران بإغلاق مضيق هرمز ووقف تدفق النفط الخليجي إلى الأسواق البترولية العالمية. لقد لعبت روسيا دورا كبيرا في مساعدة إيران على بناء وتطوير برنامجها النووي كما أن الصين في حاجة كبيرة إلى النفط الإيراني.

لقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا إلى تجنب أي تصعيد في المواجهة غير أن الأطراف الاقليمية وفي مقدمتها إيران هي التي سعت إلى جر موسكو وواشنطون إلى تصعيد الأمور باتجاه الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك.

لقد جاء الصراع المحتدم في سوريا ليعري مدى محدودية فهم الغرب للطريقة التي تنظر بها روسيا والصين إلى العالم. لقد بنى مبعوث الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية المشترك كوفي عنان خطته أساسا على إبراز مصلحة روسيا في التأكيد للولايات المتحدة الأمريكية أنها تمثل حليفا لا غنى عنه في بناء مرحلة ما بعد بشار الأسد. لقد بنى كوفي عنان خطته أيضا على مثل هذا الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الصين في مرحلة ما بعد نظام دمشق. لقد راعت خطة كوفي عنان التوازنات والمصالح الحيوية لهذه القوى العظمى.

إن ما يزيد من أهمية الرهان السوري هو أن روسيا والصين قد أثبتتا أنهما لا تمتلكان أي مصلحة استراتيجية لهما في الانتقال إلى ما بعد الأنظمة الدكتاتورية ليس فقط في سوريا وإنما في مختلف مناطق العالم الأخرى، فالصين وروسيا لا تنظران إلى سوريا من زاوية السلام والأمن الدوليين أو من زاوية حقوق الانسان، بقدر ما تنظران إلى سوريا من زاوية إلى ما يجري في سوريا من خلال منطق النظامين الشموليين القائمين في كل من موسكو وبكين، فسوريا في نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي الشيشان كما أنه بالنسبة إلى الصين تمثل مقاطعة التيبت. لذلك نرى أن روسيا والصين تفهمان نظام بشار الأسد فهما تاما، فهو يفعل اليوم ما فعلته روسيا والصين أكثر من مرة في الماضي القريب والبعيد وهما تريدان أن يفهم العالم أنهما ستدعمان أي حاكم دكتاتوري يواجه مثل هذه التحديات.

في الحقيقة لا تشكل أي من هذه الأمور صدمة حقيقية بالنظر إلى طبيعة النظامين الحاكمين في كل من الصين وروسيا، غير أن الأمر لا يخلو من مفاجأة، فعندما حطت الحرب الباردة أوزارها سنة ١٩٨٩ كنا نعتقد أن التاريخ قد انحاز إلى حرية الشعوب وبدأنا نتغنى بذلك. لقد تبنت كل من روسيا والصين سياسة اقتصاد السوق على النمط الرأسمالي الغربي وكنا نظن أن الاصلاحات الاقتصادية على النمط الرأسمالي الغربي ستجد طريقها لا محالة إلى موسكو وبكين لأن الشعوب التي تتمتع بالحرية الاقتصادية ستطالب بالديمقراطية والحرية السياسية أيضا. لقد ظل الشعبان الروسي والصيني يحاولان ذلك منذ نهاية الحرب الباردة غير أن النظامين الحاكمين في كل من موسكو وبكين قد أوصدا كل الأبواب.

لقد أساء الغرب قراءة روسيا والصين ونياتهما الاستراتيجية. إننا ندرك أنهما ترفضان تبني النظرة الغربية للعالم، فقد قاومت روسيا الخطط التوسعية لحلف الأطلنطي قرب حدودها كما رفضت منح حلف الأطلنطي الضوء الأخضر في إقليم كوسوفو. رغم ذلك فقد ذهب في اعتقادنا أن حاجة الروس والصينيين إلى رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية عامة والغربية على وجه الخصوص سوف تلطف من سياستهما المتشددة.

جاءت الأزمة السورية لتمثل نهاية أوهام فترة ما بعد فترة الحرب الباردة. فالكثير من الدول في المنطقة التي تمتد من الحدود الروسية إلى المحيط الهادي توجد اليوم بين أيدي أنظمة دكتاتورية فاسدة تكرس نظام الحزب الواحد. لا شك أن النظامين الروسي والصيني سيعمقان تقاربهما، ذلك أنهما يدركان أن لهما ذات الخيارات الاستراتيجية. فكلا النظامين الروسي والصيني يوظف الرأسمالية من أجل تعزيز استبداده السياسي. إنهما ينظران إلى العالم كمعركة بين نخب تتمتع بسلطات واسعة من ناحية ونخب غربية محدودة السلطات والصلاحيات بحكم طبيعتها الديمقراطية.

يجب أن نفهم هذا الانقسام الجديد في العالم ونتصرف وفقا له. لا يتعلق الأمر بحرب باردة جديدة يشهدها العالم حيث أنه لا يوجد صراع بين الايديولوجيات من شأنه أن يغذي النزعات التوسعية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والقيادة الشمولية الصينية. إن الصين وروسيا لا تعتبران حتى الآن "عدوتين" للغرب لأنهما لا تخططان لزعزعة النظام الموجود حاليا من الدول والتحالفات. الصين وروسيا هما في الوقت الحالي منافستان للغرب ولهما مصالح متعارضة مع المصالح الغربية. لقد وقع كوفي عنان في خطأ فادح عندما راهن على روسيا والصين وافترض أنهما يمكن أن تتحالفا مع الغرب ضد سوريا. هذا هو الوهم الكبير الذي لم نستفق منه.











.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة