الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٣٦ - الخميس ١٩ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٩ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


الأزمة السورية والحسابات الانتخابية الأمريكية





في صيف ٢٠٠٨، عندما بدأت الدبابات الروسية تزحف على جورجيا المجاورة، توقف الأمريكيون برهة من الزمن عن مشاهدة الألعاب الأولمبية وراحوا يعبرون عن شدة سخطهم على "العدوان الروسي" بل إن الأمر وصل بالسيناتور الأمريكي ومرشح الانتخابات الرئاسية الجمهوري السابق جون ماكين إلى حد القول يومها: "نحن كلنا جورجيون" وسارع إلى إيفاد زوجته إلى تبليسي ؟ عاصمة جورجيا ؟ من أجل تقصي الأمر.

ها هو نظام دمشق قد تجاوز اليوم كل الخطوط الحمر وأصبح يرتكب أبشع المجازر في حق شعبه حتى ان أعداد القتلى من المدنيين يعدون اليوم بالآلاف، من ضمنهم أكثر من مائة أبيدوا مؤخرا في قرية الحولة، علما أن نصفهم من الأطفال. رغم ذلك لا نكاد نسمع ولو صوتا خافتا يصدر عن المرشحين إلى الانتخابات الرئاسية ؟ السابقين أو الحاليين ؟ كما أنه لا يكاد يسمع للرئيس الحالي القابع في البيت الأبيض الأمريكي أي صوت.

لماذا؟

إن هذا الأمر يعود في جزء كبير منه إلى ما يسمى "الواقعية السياسية" أو "الريال بوليتيك" إضافة إلى الضغوط والحسابات الانتخابية الرئاسية الضيقة، فروسيا ستظل دائما تستخدم كذريعة للمرشحين الذين نضجوا سياسيا إبان حقبة الحرب الباردة.

رغم أهمية الحرب في جورجيا فإنها لم تدم سوى خمسة أيام. أما الحرب في سوريا فإنها استمرت حتى الآن أكثر من خمسة عشر شهرا ولا يوجد أي مؤشر يدل على أن سفك الدماء وإزهاق الأرواح سينتهيان عما قريب.

ما الذي جعل مرشحي الانتخابات الرئاسية يبدون مثل تلك الحماسة في مساندة جورجيا سنة ٢٠٠٨ وما الذي جعلهم يخرسون اليوم فيما يتعلق بسوريا؟

هناك الكثير من النظريات.

في سنة ٢٠٠٨ أصبحت جورجيا مجرد نموذج أو شعار انتخابي استغله المرشحون في حملاتهم الانتخابية كي يظهروا مدى القوة التي سيتعاملون بها مع أي اعتداء خارجي. في سنة ٢٠٠٨ أيد الناخبون جون ماكين على حساب باراك أوباما بنسبة ٥٢% مقابل ٢٧% فيما يتعلق بكيفية التعامل مع روسيا العائدة بقوة على الساحة السياسية الدولية. ذلك ما أظهره آنذاك استطلاع "كيونيبك"، الذي أجري بعيد الحرب في جورجيا.

أما نائب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن الذي سبق له زيارة تبليسي فقد بدا أكثر تأييدا لجورجيا من باراك أوباما حيث انه قال في ذلك الوقت: "إن الحرب التي بدأت في جورجيا لا تتعلق بدولة بمفردها. إن المسألة أصبحت اليوم تتعلق بما إذا كان الغرب قادرا اليوم على دعم حقوق الشعوب الحرة عبر المنطقة. إن نتيجة الحرب هناك ستحدد ما إذا كنا سنحقق طموحنا الأكبر في بناء أوروبا كبرى تنعم بالحرية والسلام".

لقد استمد جو بايدن كلامه ذلك من نمط الخطاب الذي كان يسود حقبة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي آنذاك والمعسكر الغربي الذي كانت تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد نجح جو بايدن بعد ذلك في إقناع إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش برصد مليار دولار في شكل مساعدات عاجلة لجورجيا، وهو ما يمثل عشرة أضعاف الذي وعدت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديمه للثوار في سوريا.

أما سارة بالين ؟ التي اختارها المرشح الجمهوري كي تكون نائبته في البيت الأبيض في حالة الفوز في انتخابات ٢٠٠٨ ؟ فقد ألمحت خلال حوار أجرته معها شبكة "آي- بي- سي" الإخبارية الأمريكية إلى أنها ستكون "مستعدة للدخول في حرب ضد روسيا دفاعا عن جورجيا".

إن مسألة دعم المعارضين في سوريا أكثر تعقيدا وصعوبة، فمن السهولة بمكان تخصيص شيك بمليار دولار لمساعدة جورجيا في مواجهة الاعتداء الروسي و"ليِّ" احدى أصابع سلطات الكرملين في موسكو. إن الوقوف في وجه رجل قوي مثل فلاديمير بوتين من شأنه أن يحجم كثيرا من الأطراف داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها ويحدث بالتالي فرقعة إعلامية كبيرة، كما أن انتهاك سيادة أي دولة من شأنه أن يثير ردود أفعال قوية في الغرب، غير أن توجيه ضربات جوية عسكرية إلى دولة مسلمة على وشك الانزلاق في الحرب الأهلية سيمثل مجازفة خطرة قد تكون عواقبها وخيمة.

إن سوريا ليست ليبيا التي فرضت عليها منطقة لحظر الطيران وسقط نظامها الحاكم بقيادة العقيد معمر القذافي في عزلة قاتلة ما أسهم بعد ذلك في الانقضاض عليه والإجهاز عليه.

لقد كان السيناتور جون ماكين سنة ٢٠٠٨ يسخر من الدعوات إلى "ضبط النفس" في جورجيا. لا غرابة أنه يدعو اليوم إلى التدخل العسكري في سوريا. يفترض أن تؤدي المذبحة الشنيعة التي شهدتها قرية "الحولة" مؤخرا إلى ردود أفعال قوية وساخطة في الغرب، غير أن الأمر لم يتجاوز حتى الآن طرد بعض السفراء والتعبير عن الإدانة والشجب.

يعود السبب في جزء منه إلى حالة الحصار الإعلامي التي يفرضها نظام بشار الأسد ولولا وسائل الاتصال البديلة لما عرف العالم بمذبحة "الحولة" وغيرها من الجرائم الأخرى الشنيعة التي يرتكبها النظام البعثي الحاكم في دمشق. إن الإعلام السوري يروج في حملاته لوجود عناصر من تنظيم القاعدة الأمر، الذي أثار مخاوف الغرب الذي راح أيضا يتساءل عما إذا كان سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى اندلاع حرب أهلية طائفية قد تعود بعواقب مدمرة وتتجاوز تداعياتها وامتداداتها إلى كامل منطقة الشرق الأوسط التي تشهد حالة من الاستقطاب الحادة. لذلك لم يخرج علينا حتى الآن أي رجل سياسي في الولايات المتحدة الأمريكية أو في بقية الدول الغربية ليقول لنا: "نحن اليوم كلنا سوريون".

إن الأمر مرتبط بالقيود السياسية التي تفرضها حملة الانتخابات التي تقتضي حسابات وحسابات مضادة. لقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخرا محطة فوكس نيوز الإخبارية مطلع السنة الجارية أن ٨٢% من الأمريكيين يؤيدون تقديم المساعدات الانسانية للمعارضين في سوريا من دون الوصول إلى حد تزويدهم بالأسلحة أو تنفيذ ضربات جوية ضد الجيش السوري على النمط الليبي.

لهذا السبب يحاول المرشحون إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية تبني موقف وسط ما بين تبرم الناخبين من التدخلات العسكرية الخارجية الفاشلة والنزعة الغريزية للتعبير عن موقف قوي مساند لدعاة الحرية. لقد فضل المرشح الجمهوري ميت رومني تسليح المعارضة السورية للإطاحة بنظام بشار الأسد غير أنه يرفض أي تدخل عسكري أمريكي في سوريا. أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فهو يفضل تزويد المقاتلين في سوريا بمعدات غير الأسلحة.

في الحقيقة لا أحد يعتقد أن تزويد المسلحين المنشقين بالمناظير الليلية من شأنه أن يرجح كفتهم على حساب نظام الأسد. لقد أجمع العالم سنة ٢٠٠٨ على التدخل دبلوماسيا في منطقة القوقاز. أما سوريا فهي لاتزال تقسم المجتمع الدولي بشكل حاد.

* كبير الباحثين في مشروع ترومان للأمن القومي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة