هل تشهد روسيا.. روسيا جديدة؟
 تاريخ النشر : الخميس ١٦ فبراير ٢٠١٢
بقلم: روبرت سيرفس
قبل نحو عشرين سنة من الآن، أعلن ميخائيل جورباتشوف نهاية تجربة تاريخية كبيرة، فبعد سبعة عقود تفكك الاتحاد السوفيتي وتحولت الجمهوريات الخمس عشرة التي كانت تكونه إلى دول مستقلة كما أن الرأسمالية حلت محل الاقتصاد السوفيتي الموجه. ترك جثمان الزعيم لينين المحنط على حاله في الساحة الحمراء غير أن القضية التي قاد من أجلها الثورة البلشفية سنة ١٩١٧ لم تعد تستقطب تعاطف مئات الملايين من الروس وملايين أخرى من الناس حول العالم.
ظل الشعب الروسي على مدى العقدين الماضيين - أي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وتلاشي الشيوعية - يعاني الأمرين جراء قمع وفساد النظام السياسي الذي قام على أنقاض النظام الشيوعي وقد بلغت ذروة الفساد في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في روسيا في شهر ديسمبر ٢٠١١ وشابتها تجاوزات كبيرة، الأمر الذي حدا بعشرات الآلاف من الروس إلى الخروج إلى الشوارع. لقد خرجوا في أكبر مظاهرة من نوعها تشهدها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أما الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي والرئيس الروسي القادم: فلاديمير بوتين فقد أصبح أخيرا يواجه متاعب كبيرة في الشارع الروسي.
لقد كانت أزمة نهاية الحقبة الشيوعية هادئة نسبيا. أما نهاية الاتحاد السوفيتي فقد كانت بالمقابل ثورية غير أن حشود المتظاهرين لم تصل إلى حد اقتحام مبنى الكرملين أو مهاجمة مقار جهاز المخابرات السوفيتية المرعب (الكي.جي.بي) أو ثكنات الجيش الأحمر السوفيتي. ففي الأيام الأخيرة للحقبة الشيوعية اتسمت تلك الفترة بتناقص وتيرة العمل السياسي وحدته إلى حد كبير، فكان موت الشيوعية موتا رحيما.
ظهر ميخائيل جورباتشوف - آخر الرؤساء السوفيت - على شاشة التلفزيون الرسمي وحاول أن يتحلى بالشجاعة ورباطة الجأش، فقد قال في الخطاب الذي ألقاه يوم ٢٥ ديسمبر ١٩٩١:
«إننا نعيش اليوم في عالم جديد.. لقد انتهت الحرب الباردة وتوقف سباق التسلح مثلما توقفت عملية التسلح المحمومة في الاتحاد السوفيتي». لم يستطع ميخائيل جورباتشوف أن يخفي أسفه على الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي ليصبح أثرا بعد عين.
لقد كان ميخائيل جورباتشوف يدفع ثمن أخطائه الفادحة. فالقوانين الاقتصادية التي أدخلها سنة ١٩٨٨ أضعفت القطاع العام من دون أن تسمح للمؤسسات الخاصة بالظهور والبروز. لقد أربك جورباتشوف مؤسسات الدولة وأزعجها: الحزب الشيوعي والكي جي بي والجيش الأحمر السوفيتي وتسبب في تقليص قدرة المؤسسة العسكرية على الرد والردع. وبالمقابل فقد أسهم ميخائيل جورباتشوف في توسيع هامش حريات الرأي والتعبير، الأمر الذي شجع الراديكايين على البدء بالتنديد بالشيوعية رغم الإصلاحات التي بدأ ينفذها.
لقد اعتقد ميخائيل جورباتشوف خطأ أن الإصلاح من شأنه أن «يفجر طاقات الشعب الروسي» لكن الحقيقة أن مثل هذا الشعب لم يكن له أي وجود. فالأستونيون واللاتفيون والليتوانيون كانوا يريدون الانعتاق وإقامة دولهم المستقلة واختيار من يحكمهم بأنفسهم. أما الشعب الجورجي فقد انتخب سنة ١٩٩٠ زعيما وطنيا متشددا كي يتولى زمام الحكم. أما على الحدود الغربية والجنوبية الشرقية للاتحاد السوفيتي فقد بدأ عقد الامبراطورية الشيوعية ينفرط.
في شهر أغسطس ١٩٩١، وفيما كان ميخائيل جورباتشوف يمضي إجازته في جزر القمر كان مساعدوه ومستشاروه يعملون على عرقلة إصلاحاته من خلال تنفيذ محاولة انقلابية غير أنهم نسوا أنه كان عليهم أولا أن يبادروا إلى القبض على بوريس يلتسين الشيوعي الراديكالي السابق الذي انتخب قبل ذلك بشهرين رئيسا لروسيا، فقد هرع بوريس يلتسين إلى البيت الأبيض في وسط العاصمة موسكو وصعد على ظهر دبابة وراح يخطب في حشود الناس معلنا تحديه الكامل للانقلابيين.
وهكذا فقد فشل الانقلاب. عندما قطع ميخائيل جورباتشوف إجازته في جزر القمر وعاد على جناح السرعة إلى موسكو كان بوريس يلتسين قد أصبح البطل. كان بوريس يلستين يشعر مع ذلك بأنه لن ينجح في تعزيز موقفه ما لم يتفكك الاتحاد السوفيتي ويتولى هو حكم روسيا كدولة منفصلة. فقد كان بوريس يلتسين وأنصاره يعتبرون أن روسيا بمثابة العملاق الذي يغط في نومه رغم الامكانيات الضخمة التي تتمتع بها والتي تؤهلها لبناء دولة قوية في المستقبل بشرط أن يتخلصوا من العقبة الكأداء: الاتحاد السوفيتي إضافة إلى التخلص من عبء تحمل أعباء بقية الجمهوريات السوفيتية. لقد كانوا يرون أن الشيوعية قد وصلت إلى طريق مسدود وأنها قد فرخت نظاما استبداديا بات يمثل كابوسا مرعبا.
لقد جاءت الفرصة السانحة يوم ١ ديسمبر ١٩٩١ عندما صوت الشعب الأوكراني بأغلبية ساحقة للانفصال عن الاتحاد السوفيتي. لقد بات واضحا أن الاتحاد السوفيتي قد دخل في مسار التفكك نتيجة تزايد المطالب الانفصالية. لقد التقى بوريس يلتسين رئيسي أوكرانيا وروسيا البيضاء واتفقوا على اعلان وفاة الاتحاد السوفيتي.
لم يكن أمام ميخائيل جورباتشوف من خيار آخر سوى الموافقة فيما دفعه بوريس يلتسين وأخرجه من الكرملين من الباب الصغير. لقد اتضح أيضا أن الشعب الروسي يفضل أن يشاهد رجال السياسة على شاشة التلفزيون بدل المشاركة بنفسه في التحولات الجارية في بلاده. فقد ظل الروس يتعاملون بفتور مع القادة الشيوعيين منذ تلك الحملة من الاعتقالات والاعدامات المحمومة إبان فترة الرعب خلال حكم جوزيف ستالين في الثلاثينيات من القرن العشرين، الأمر الذي جعل الشعب الروسي يتهيب السياسة ويرتاب من السياسيين ولا يثق بهم.
رغم أن آلاف الشبان الروس قد انضموا إلى بوريس يلتسين في تحديه للانقلابيين في أغسطس ١٩٩١ فإن نشاطهم السياسي قد تلاشى جراء تدهور أوضاعهم المعيشية. تعرضت شركات الدولة للخصخصة العشوائية المحمومة فيما ازدادت مخاوف العمال من البطالة، الأمر الذي جعلهم يرفضون الانسياق وراء الأصوات النقابية الشيوعية التي كانت تدعو إلى تكثيف الاضرابات.
لقد انهار القطاع العام في روسيا في عهد بوريس يلتسين ولم يشمل الانهيار قطاعات البتروكيماويات والذهب وقطاعات صناعية أخرى بل إن الأوضاع المتدهورة قد حالت بدورها دون نمو النظام الرأسمالي، فقد تحولت حفنة من رجال الأعمال إلى أغنياء حتى الترف بعد أن نجحوا في تكديس ثروات طائلة على حساب السواد الأعظم من الشعب الروسي حيث انهم استغلوا بعض الثغرات القانونية كما أنهم استعملوا أساليب الغش والخداع. كان أغلب المواطنين الروس في فترة ما بعد الشيوعية مرهقين ولم يكونا يرغبون في أي تحركات للتعبير عن غضبهم.
في عهد فلاديمير بوتين أصبح من الصعب الخروج في مظاهرات ضد سلطات الكرملين، انتخب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا سنة ٢٠٠٠ وهو يتولى اليوم منصب رئيس الوزراء وقد لجأ إلى العديد من الألاعيب والأحابيل مثل تزوير الانتخابات وعرقلة خصومه السياسيين واختلاق الذرائع لإقصائهم من الترشح إضافة إلى السيطرة على التلفزيون الرسمي من أجل تكريس بقائه في السلطة. رغم أن فلاديمير بوتين قد حقق شعبية كبيرة بعد أن أرسى الاستقرار في روسيا فإن تكالبه على السلطة قد جلب له عداء شعبيا يزداد كل يوم.
لقد سئم أغلب الروس الفساد وسوء الحكم والفقر المستشري في بلادهم في الوقت الذي تعيش فيه النخبة في الكرملين حياة البذخ بفضل الإيرادات المتأتية من صادرات النفط والغاز الطبيعي ففي مطلع الألفية الجديدة كان أكثر من ٤٠% من الروس يعيشون تحت خط الفقر الذي حددته منظمة الأمم المتحدة.
لقد عانت المعارضة الروسية كثيرا بسبب السياسات الاستبدادية التي ينتهجها فلاديمير بوتين. يتعين على هذه المعارضة أن تستفيد اليوم من هذا الحراك في الشارع الروسي. لن يكون بإمكان فلاديمير بوتين بعد الآن أن يستمر في الاعتماد على أساليبه نفسها في الهيمنة على الشارع الروسي حيث ان حاجز الخوف قد سقط أيضا في روسيا، فعلى غرار بوريس يلتسين الذي سبقه فإن فلاديمير بوتين لا يرى أي غضاضة في توظيف السياسة والألاعيب السياسية القذرة من أجل الوصول إلى السلطة والتشبث بها كما أنه لا يرى مندوحة من اللجوء إلى الأجهرة الأمنية من أجل الوصول إلى أهدافه.
.
مقالات أخرى...
- روسيا بعد عشرين سنة من سقوط الاتحاد السوفيتي - (16 فبراير 2012)
- تركيا وفرنسا والهيمنة على العالم العربي - (15 فبراير 2012)
- إيران.. القنبلة والربيع القادم - (14 فبراير 2012)
- الغرب ما بين غزو العراق والتدخل في سوريا - (14 فبراير 2012)
- إيران و«اللعبة الكبرى» في العلاقات الدولية - (11 فبراير 2012)
- انقسام المواقف الدولية حول الأزمة السورية - (8 فبراير 2012)
- هل تنزلق سوريا في الحرب الأهلية؟ - (8 فبراير 2012)
- أمريكا والدرس العراقي القاسي - (5 فبراير 2012)
- أي مستقبل للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ - (5 فبراير 2012)