الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٥٤ - السبت ٢٨ أبريل ٢٠١٢ م، الموافق ٧ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


وتـحـقـقـــــــت الـرؤيــــــــــا





ما لهذه الصورة قد شدتني إليها، وجذبت أحاسيسي المتلهفة لرؤيتها الفاحصة المتأنية.. الصورة لابد أن مرت على آلاف من البشر غيري.. نشرت في كل الصحف المحلية بتاريخ ٢/١٢/..٢٠١١ هل دقق فيها أحد مثلي؟.. لا أدري.. أنا وحدي ربما بين كل من رآها شكلت لي مغزىً مبهما. استلت من عقلي ذكريات عميقة من المآسي والألم والشقاء. التفاصيل الظاهرة في الصورة محدودة جدا.. رجل خمسيني العمر.. تقف بجانبه ممرضة تضع جهازاً طبياً على ساعده الايسر.. معلومات قليلة تحت الصورة تقول: مستشفى الملك حمد الجامعي بالمحرق يستقبل أول مريض في افتتاحه التجريبي.

بحثتُ جاهداً في ثنايا الخبر المرفق مع تلك الصورة المعبرة عن أي شيء عن هذا المريض. لم استدل من السطور القليلة المنشورة على تعريف خاص بهذا الانسان المريض، عدا انه المريض الذي دخل التاريخ لكونه المريض الأول في سجلات هذا المستشفى الحُلم لسكان مدينة المحرق.

كان الظلام يجهد عينيّ. مازالت الصورة في يدي وأنا أغالب التعب والأرق الشديدين. ليل ديسمبر قاسٍ وطويل. برودته المفتتة للعظام تسري في جسدي المرتعش. كان الدفء الرقيق اتحسسه يسري في جسدي من خلال النظر في تلك الصورة وما وراء الصورة من تداعيات ذكرياتٍ قديمةٍ لا تمحى. كانت سنون بعيدة جدا في الماضي السحيق ما يقارب الستين عاماً إلا قليلا. كنت في الخامسة من عمري. ابن خالي الذي العب معه مسجى على حصيرة صغيرة. ملفوفٌ بقماش أبيض.. وجهه الجميل الوضاء كان ظاهراً جليا. مغمض العينين وعلى محياه آثار ابتساماته العذبة التي أتبادلها معه. قال لي خالي بصوت ضعيف مكسور:

- قبل ابن خالك على جبينه. لن تراه بعد هذه اللحظة.

لقد مات الصغير البريء بمرض شديد. بكيته كثيرا لأيام طويلة.

لم تمض سنوات قليلة على تلك الفاجعة لموت ابن خالي. حتى تخبرني والدتي ان جدتي مريضة جدا. ذهبت لرؤيتها. كانت نائمة في هدوء وصبر خاشعين مؤلمين على أرضية رطبة في غرفتها المرصوصة بجص جيري متفتت داكن اللون. تئن بتنفسٍ شاق أنينا خافتا. قالت أمي: كلمها فهي تسمعك. نطقت باسمها مردداً إياه عدة مرات بحزن وبكاء دفين. أمسكت جدتي أصابع يدي الباردة الخائفة. ضغطت عليها بحنان محبتها الدافقة. شعرت بمدى آلامها ومعاناتها تنبعث حارة من عروق يدها المزرقة وهي صامتة. ولكني لم أكن أدرك وقتها انها كانت تعاني سكرات الموت. فالمرض كان شديداً وطأته على جسدها النحيل الذابل. لم يمهلها طويلا فسقطت ميتة بين يدي وأنا أبكي وأصرخ في أمي. خذوها إلى المستشفى بسرعة.عرفت بعد سنين أن أمي كانت معذورة. انه لم تكن توجد مستشفيات ومراكز طبية في المحرق.

توالت أحزان عظيمة لا يحتملها الانسان إلا بصعوبة ومشقة. فأصيبت زوجة خالي بمرض الزهايمر. توفي خالي بمرض عضال. تبعته زوجة خالي المريضة ولحقهما ابن خالي الثاني الشاب بمرضٍ مستعصٍ في المخ. حدث كل ذلك في سنوات متقاربة وهم في مستشفيات بعيدة في السلمانية والعسكري. صعُب عليهم الحصول على الرعاية الطبية السريعة والمناسبة لو كان في المحرق مستشفى تخصصي يخفف من عنائهم وآلامهم وأحزانهم.

أفقتُ من رحلة الذكريات المؤلمة بعد أن اشتدت عليَّ البرودة القاسية والساعة تقترب من الثانية عشرة بعد منتصف الليل. نظرتُ في الصورة للمرة الأخيرة قبل توجهي إلى فراشي. سرتْ في عروقي رجفة أمل أن المعاناة أخيراً في طريقها إلى الزوال. هذا هو المستشفى الكبير الزاهر بدأ على الأقل في مراحله التجريبية الأولى. وأنا انهض من مقعدي. لا أدري لماذا التقت عيناي ذلك الرجل المريض الأول الظاهر في الصورة. دققتُ في ملامحه للمرة الأخيرة لعلي صادفت رؤيته في مكان ما. لم استطع معرفته، ركنتُ الجريدة جانباً على الطاولة القريبة.

كان صباح اليوم الثاني المصادف لتاريخ ٣/١٢/٢٠١٢ تذكرتُ فيه أن سيارتي بحاجة إلى الصيانة الدورية. قررت أن آخذها إلى أحد الكراجات القريبة في منطقتنا رغم علمي بالزحام الشديد على الكراجات، هذا اليوم السبت هو يوم اجازة. كما تصورت المنطقة تعج بمئات السيارات والضغط شديد على الكراجات. توقفت عند أحدها. في غرفة الانتظار. شاهدت رجلا يقترب من موظف الكراج. بعد دقائق توقفتُ عند براد الماء فوجدت الرجل نفسه واقفاً بقربي. شعرت بشيء ما يجذبني للحديث إليه. تكلمت معه بسرعة عن مشكلته مع سيارته وبعدها قال لي:

أنا أسكن في منطقة حالة ابي ماهر. وأنا أعرف الكثيرين من أقربائك في تلك المنطقة.

أجبته باقتضاب:

اعذرني، أنا لم أتعرف إليك مسبقا.

كنت استرقُ نظرات على سماحة وجهه وبشاشته وطيب كلامه الصادق. وقبل أن أسأله بعض الأسئلة الاخرى لاقترب أكثر من شخصيته الغامضة علي. فإذا به يسألني هو من غير توقع مني:

هل شاهدت الجرائد يوم أمس؟ لقد نشرت صورتي في الجريدة. هل تصدق اني المريض الأول الذي دخلت مستشفى الملك حمد الجامعي للمعالجة؟

كدت أن أترنح عندما سمعت كلامه، وانتابتني موجة من القشعريرة المربكة. فأنا البارحة طوال الليل أفكر في صورة ذلك الرجل، وها هو الآن يقف بجواري بجسده وروحه أمامي. هل حقاً تتحقق الرؤيا عندما نتمناها وتراودنا في أحلامنا وخيالنا؟ أم كان ذلك محض من المصادفات الغريبة الجائز حدوثها؟ لم أتمالك فرحتي بلقائه وسلمت عليه بحرارة وأخبرته عن سعادتي برؤية صورته المشرقة في الجريدة وكيف أنها اخذتني إلى الذكريات البعيدة لأيام المحرق القاسية المعيشة. وذكرت له أنه فعلاً يستحق أن يدخل تاريخ هذا المستشفى الباهر لكونه المريض الأول. وهنا طرأ في بالي سؤالٌ كان يشاغلني أثناء ما كنت أدقق في صورته ليلة البارحة، فقلت له:

كيف تم اختيارك لتكون أول شخص من بين عشرات بل المئات من المراجعين من المرضى؟

لم أكن أعلم بأني سأحول إلى هذا المستشفى البتة، وأنا كنت في طريقي أصلا إلى مستشفى السلمانية، فجاءني اتصال من المركز الصحي أن أتوجه إلى مستشفى الملك حمد الجامعي بدلاً من السلمانية. واخبرك بكل صراحة أنني لم أتوقع أبدا هذا الاستقبال الرائع من كل المسئولين والعاملين بالمستشفى، وفوجئت أنهم يقولون لي بأني المراجع الأول في تاريخ هذا المستشفى، وتم تصويري للجرائد بهذه المناسبة العزيزة. وحصلت على رعاية طبية ممتازة وفائقة الجودة.

رددتُ عليه وأنا متأثرٌ جدا لكلامه البليغ قائلا له:هل تصدق اني حلمت البارحة برؤيتكم؟ لا أدري لماذا تحديدا، ربما لتخبرني عن هذه المعلومات العظيمة والقيمة عن بشرى ولادة هذا المستشفى الزاهر المتميز الذي انتظرناه طويلا.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة