سمات الدولة الفاشلة
 تاريخ النشر : الاثنين ٢ يوليو ٢٠١٢
في كل النقاشات التي تتعلق بالقضايا الدولية يتفق الجميع على ضرورة بذل المزيد من الجهود من أجل مساعدة الدول الفاشلة التي تعاني حالة من الانهيار أو الفقر المدقع حتى تتعافى وتستعيد مكانتها بين بقية الأمم. لطالما اعتبر رجال السياسة والخبراء الاستراتيجيون والمحللون أن هذه الدول الفاشلة تتحول إلى مرتع للإرهابيين والمتطرفين الذين يستغلون كل فراغ في العالم. في الولايات المتحدة الأمريكية برزت فئة من المخططين العسكريين الذين قالوا ان الدول الضعيفة وما يسمونه "اللا- دول" هي التي تثير المخاوف أكثر من المخاوف التي تثيرها الدول القوية. يقول هؤلاء الخبراء إنه يوجد في العالم دول غير محكومة من أي سلطة، ودول أخرى تحكمها أنظمة سيئة ودول أخرى تمثل أرضية خصبة لتنامي التيارات المتطرفة. يذكر أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أصدرت وثيقة مهمة تطرقت إلى أمثلة من الدول الفاشلة التي تشكل خطرا كبيرا على الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي والدولي. أكد التقرير أيضا ضرورة العمل على "بناء قدرات هذه الدول الهشة" في إطار استراتيجية ترمي إلى معالجة الصراعات المحلية والاقليمية التي تزيد من حدة التوترات وتفرز العديد من المعضلات الأخرى مثل تهريب المخدرات والجريمة المنظمة في غياب سلطة القانون في الدول الفاشلة. فقد ظلت الولايات المتحدة في الأعوام الماضية تدرج مسألة بناء الدول ضمن استراتيجيتها السياسية الخارجية.
تعتبر وثيقة الاستراتيجية الأمنية الأوروبية أن فشل الدول يمثل ظاهرة بالغة الخطورة في عالمنا المعاصر، وقد جاء في هذه الوثيقة الاستراتيجية ما يلي:
"إن الدول المجاورة التي تشهد صراعات عنيفة والبلدان الضعيفة التي تمثل مرتعا خصبا لعصابات الجريمة المنظمة والدول التي تعاني تفكك مجتمعاتها وانفجارها الديمغرافي تنشئ مشاكل كثيرة وخطرة تتهدد الأمن الأوروبي".
لقد تطرق الدبلوماسي البريطاني روبرت فرانسيس كوبر إلى هذه الظاهرة في كتابه الذي اختار له عنوان "تفكك الدول". يقسم المؤلف في كتابه العالم إلى ثلاث مناطق أساسية تختص بسمات تختلف بها عن المنطقتين الأخريين وهي:
١ـ مناطق ما قبل الحداثة وهي المناطق التي يسودها الانهيار الأمني وانعدام الاستقرار ومظاهر الفوضى، عدا مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
٢ـ مناطق تفرض فيها الدولة ذات السيادة الكاملة هيبتها بشكل فعلي وهي تتمتع بالأمن والاستقرار والتقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي.
٣ـ مناطق ما بعد الحداثة، وهي تشمل الدول التي تخلت عن جانب من سيادتها من أجل تكريس التعاون الوثيق وهو ما يتجلى إلى حد كبير في الاتحاد الأوروبي.
يشدد المؤلف على ضرورة متابعة مظاهر الفوضى المستشرية في بعض مناطق العالم والعمل على احتوائها حتى لا يتسع نطاقها.
كتب المؤلف يقول في هذا الصدد:
"لم تكن الامبراطورية الفارسية القوية والمنظمة هي التي تسببت في سقوط روما بل إن المظاهر البربرية هي التي تسببت في دمار الامبراطورية الرومانية...".
لقد ظل الخبراء الاستراتيجيون يعبرون عن مخاوفهم من ظاهرة الدول الفاشلة في عالمنا المعاصر وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي. في البداية ساد الاعتقاد أن مناطق الحروب والفوضى تمثل خطرا على شعوب تلك البلدان نفسها أو الدول المجاورة لها، لكن منذ هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ التي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية أعاد المفكرون الاستراتيجيون النظر في أطروحاتهم المتعلقة بالدول الفاشلة وأصبحوا يعتبرون أن تلك البؤر التي يستشري فيها العنف والجريمة والفوضى والحروب والفقر تمثل خطرا يتهدد أمن العالم واستقراره. لقد استخدم مثل هذا المنطق الاستراتيجي في تبرير التدخلات العسكرية باسم محاربة الارهاب والجريمة وغيرهما من المظاهر الأخرى التي تعتبر من سمات الدول الفاشلة.
على سبيل المثال أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية قوات عسكرية إلى الصومال سنة ١٩٩٢ من أجل مساعدة منظمة الأمم المتحدة على احتواء المجاعة غير أن الفوضى المسلحة في مقديشيو سرعان ما جعلت سلطات واشنطن تقرر الانسحاب من هناك على جناح السرعة.
خلال الأعوام الماضية نشطت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك المنطقة فراحت تنفذ غارات جوية في الصومال ضد مواقع يشتبه في أنها تمثل معسكرات للجهاديين، كما أن واشنطن أيدت الغزو الاثيوبي سنة ٢٠٠٦ من أجل ضرب المليشيات الاسلامية المتنامية التي استولت على السلطة.
لقد أصبحت سواحل الصومال مرتعا خصبا لعصابات القرصنة البحرية، الأمر الذي تسبب في اضطراب حركة الملاحة البحرية في قناة السويس، بل إن الصين نفسها اضطرت إلى إرسال سفن حربية إلى خليج عدن من أجل حماية بواخرها التجارية التي تجوب تلك المنطقة.
تتشكل أفغانستان أيضا مثالا كلاسيكيا للدولة الفاشلة وما قد ينجم عنها من أخطار جسيمة، فالفقر المدقع وأعوام الحرب الأهلية اوجدا بيئة خصبة مهدت لظهور تنظيم القاعدة وتنامي دور حركة طالبان قبل أن يتطور الأمر بعد ذلك ليشكل خطرا يتهدد العالم بأسره وخاصة الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
تقول أجهزة المخابرات الغربية إن التحسن الأمني النسبي الذي شهده العراق الدولة الاستبدادية التي تحولت إلى دولة فاشلة عقب الغزو العسكري الأمريكي سنة ٢٠٠٣ اضطر الجهاديين إلى الانتقال إلى باكستان والصومال واليمن.
تشمل وصفة الدولة الفاشلة خليطا يضم غياب سيادة القانون واستشراء العنف والفساد والهجرة غير الشرعية والفقر المدقع والأمية، فضلا عن ضعف النظم التعليمية والتفكك الاجتماعي وضعف المؤسسات مع غياب الحكومة.
لا شك أن الحكومات الضعيفة غير قادرة على القضاء على مظاهر الفساد وإنتاج أو تهريب الأسلحة والمخدرات التي تستخدم في أحيان كثيرة في تمويل عرابي الحروب والجماعات المسلحة والإرهابيين.
إن انعدام الاستقرار يولد انعدام الاستقرار. إن مظاهر الضعف المزمن في المؤسسات المدنية في سيراليون وليبيريا من العوامل التي اسهمت في اندلاع الحروب وتفجر الصراعات المسلحة في كلا البلدين الافريقيين.
اسهمت الحرب ومجازر الابادة في رواندا في انهيار جمهورية الكونجو الديمقراطية في تسعينيات القرن الماضي. لعل ما زاد من تفكك البلاد آنذاك الصراعات التي تفجرت من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية التي تزخر بها الكونجو، إضافة إلى عدة دول أخرى مثل رواندا وبوروندي وأوغندا. أما السودان وتشاد فهما تدعمان الجماعات المسلحة المناوئة لبعضهما بعضا.
لقد تأكد أن البلدان التي وضعتها الجغرافيا قرب الدول الفاشلة تتضرر اقتصاديا وأمنيا، أما إذا ما انهارت دولة مثل نيجيريا، التي تعتبر من أكثر البلدان فسادا، فإن ذلك سيعود بعواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي لما تمثله من ثقل لا يستهان به في الأسواق النفطية العالمية.
يعتبر الخبراء أنه من الصعب تحديد مفهوم "الدولة الفاشلة"، فهم يقولون إن قلة فقط من الدول تدخل في هذا التصنيف لعل أهمها وأكثرها جلاء الصومال التي تجسد كل سمات الدولة الفاشلة حيث انه من الصعب حكمها وتطبيق مبادئ الحوكمة فيها. يختلف الوضع تماما في أرض الصومال الحر وإقليم "بونتلاند" اللذين انفصلا عن دولة الصومال واللذين يتمتعان ببعض الهدوء والاستقرار على عكس بقية مناطق البلاد رغم أن عصابات القرصنة البحرية تنشط أيضا في سواحلهما.
يعتبر الفيلسوف ماكس ويبر الأب الروحي لعلم الاجتماع الحديث وهو يعرف الدولة الحديثة كالآتي: "الدولة هي الجهة التي تحتكر لنفسها بكل نجاح شرعية استخدام القوة"، لكن ما معنى كلمة "الشرعية"؟
قد يصعب تحديد مفهوم "الدولة الفاشلة" لكن يمكن بالمقابل الحديث عن درجات في الفشل. لعل الدراسة الأكثر شمولية تلك التي تصدر دوريا عن معهد بروكينز ومقره واشنطن والتي تعرف باسم مؤشر ضعف الدولة في البلدان النامية.
تتضمن هذه الدراسة الدورية عشرين مؤشرا في تقييم أداء الدول النامية وقد تم رصد دولتين فاشلتين هما الصومال وأفغانستان إضافة إلى وجود أربع وعشرين دولة أخرى تعاني "ضعفا شديدا" في الأداء. استنادا إلى هذه الدراسة فإن الدول تفشل من عدة أوجه، إليكم بعض الأمثلة:
العراق دولة غنية بالنفط غير أن خدماتها الاجتماعية متدنية، كما أن بيئتها تظل غير آمنة.
زيمبابوي: دولة آمنة نسبيا مقارنة بعدة بلدان أخرى في القارة السمراء على وجه الخصوص غير أنها تظل تعاني دمارين سياسيا واقتصاديا فادحين.
بعض الدول فاشلة من عدة أوجه وهي تعتبر مجرد حدود رسمها المستعمر بشكل اعتباطي على الورق. على سبيل المثال تسببت هذه الحدود المصطنعة في القارة الافريقية في تمزيق أوصال العديد من الجماعات الإثنية. عندما غادرت القوات الاستعمارية اندثرت السلطات البيروقراطية المرتبطة بها، الأمر الذي تسبب في استشراء الفقر وضعف الحكم، كما أن العديد من الدول المستقلة حديثا انزلقت في أتون الحروب الأهلية على غرار الكونجو وبوروندي ورواندا وليبيريا وسيراليون. تسببت الحرب الباردة أيضا في نشوب العديد من الحروب الأهلية وتأجيج الصراعات مثلما حدث في أنجولا والموزمبيق. انهارت الدولة في الصومال بشكل كامل بمجرد غياب الدور السوفيتي الداعم لنظام مقديشيو.
إيكونوميست
.
مقالات أخرى...
- لماذا تفشل الدول؟ - (2 يوليو 2012)
- بعد فوز مرسي برئاسة الجمهورية الثانيةإخوان مصر.. كيف سيتعاملون مع خصومهم السياسيين بعد الرئاسة؟ - (2 يوليو 2012)
- ما وراء الكشف عن لائحة مفصلة بأسماء علماء نوويين في إيران - (2 يوليو 2012)
- الحرب الأهلية تطل برأسها من عكار في لبنان - (19 يونيو 2012)
- نتنياهو كبل يد المعارضة الداخلية استعدادا لمواجهة أوباما - (15 يونيو 2012)
- زلزال الانتخابات الرئاسية يتصاعد في مصر ائتلاف المسلمين الجدد يحذر من التزوير في جولة الإعادة - (15 يونيو 2012)
- ماذا بعد نتائج الجولة الأولى لـ«الانتخابات الرئاسية»؟ - (13 يونيو 2012)
- «القاعدة» تؤجج الساحة اليمنية وأمريكا ترفض التدخل العسكري - (13 يونيو 2012)
- هل تقلب مجزرة «الحولة» الطاولة على رأس الأسد؟ - (8 يونيو 2012)