الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٣ - الجمعة ٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٦ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


هل حققت المحكمة الجنائية الدولية العدل؟





قبل عشرة أعوام من الآن ؟ أي قبل أن تدخل معاهدة إنشاء المحكمة الجناية الدولية حيز التنفيذ ؟ كانت مسألة ملاحقة فرقاء الحرب وزعماء الدول المسؤولين عن ارتكاب عمليات قتل جماعية ترقى إلى الإبادة ومختلف الجرائم الأخرى ضد الانسانية من قبيل الخيال ولم تكن بالتالي تخطر على البال.

أما اليوم فإن اللافتات والشعارات التي يحملها المتظاهرون الثائرون في السوريون والتي يطالبون من خلالها بمحاكمة بشار الأسد في لاهاي لدليل قوي على أن هذه المحكمة قد فرضت فعلا وجودها وأصبحت مهابة.

رغم أن دور المحكمة الجنائية الدولية قد تنامى وعودها قد اشتد فإن الاعتبارات المتعلقة بالسياسة الدولية تمثل أكبر تحد لهذه المؤسسة القضائية الدولية التي كانت قد وعدت بالعمل على تحقيق العدالة في كنف الشفافية التامة، بعيدا عن كل انحياز، والنظر في أسوأ الجرائم التي ترتكب في العالم بكل كفاءة مهنية تحقيقا للعدالة.

لقد ارتكبت المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن الكثير من الهفوات. بعض هذه الأخطاء مرتبطة بمشاكل ذات العلاقة بالأداء وهي بالتالي أخطاء من صنع المحكمة الجنائية الدولية نفسها. في الوقت نفسه، تجد المحكمة الجناية الدولية نفسها على المحك حيث انها قد تتهم بأنها توظف من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة خدمة لمصالح الدول القوية في العالم.

لا شك أن سقف الرهانات السياسية يعتبر مرتفعا بالنسبة لمثل هذه المحكمة التي تم تفويضها من منظمة الأمم المتحدة من أجل التحقيق في جرائم الإبادة والجرائم ضد الانسانية وملاحقة مرتكبيها. تتولى هذه المحكمة حاليا ملاحقة اثنين من رؤساء الدول ونائب رئيس سابق ووزير دفاع وحاكم إحدى الولايات وزعماء حركات متمردة. لقد تم تفويض هذه المحكمة أيضا لملاحقة المشتبه بهم المشاركين في نزاعات مسلحة لاتزال مستعرة حتى اليوم، غير أن الكثير من الأطراف تعتبر اليوم أن المحكمة الجنائية الدولية قد تصبح عقبة كأداء تعوق تحقيق السلام في العالم.

لقد أعطى مجلس الأمن الدولي التفويض اللازم للمحكمة الجنائية الدولية حتى تتولى النظر في الجرائم الفظيعة التي ترتكب في دول لم تصبح حتى الآن أعضاء في هذه المحكمة. لا شك أن هذا التفويض المقدم من مجلس الأمن الدولي الذي تسيطر عليه خمس دول تتمتع بالعضوية الدائمة وحق الفيتو يزيد من خطر تسييس المحكمة الجنائية الدولية لأن الشرعية القضائية تتوقف على استقلاليته التامة عن تدخل الدول والأنظمة والحكومات. إن المعادلة صعبة في عالم تسوده المصالح وتطغى عليه التجاذبات بين القوى الكبرى في العالم.

يتمثل دور مجلس الأمن الدولي في منح التفويض اللازم للمحكمة الجنائية الدولية حتى تحقق في الجرائم الجماعية وتلاحق مرتكبيها. هذا التفويض الدولي القوي هو الذي يجعل المحكمة الجنائية الدولية تصل إلى المناطق التي ارتكبت فيها هذه الفظائع. فلولا هذا التفويض القوي من مجلس الأمن الدولي لكانت الدول المعنية بالتحقيقات والملاحقات قد منعتها من الوصول إلى مواقع هذه الجرائم.

تظل المحكمة الجنائية الدولية مع ذلك تواجه تحديات كبيرة ناجمة عن هيمنة الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا، فرنسا، بريطانيا، علما أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين لم تنضم حتى الآن لمعاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. لقد استطاعت هذه الدول أن تحمي نفسها من المحكمة الجنائية الدولية بفضل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي وحق الفيتو الذي تتمتع به.

بل إن هذه الدول الكبرى قد سعت لحماية الدول التي تدور في فلكها من ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية، فمجلس الأمن الدولي قد حول على سبيل المثال السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الوضع القائم في إقليم دارفور غير أن سوريا تعتبر اليوم مثالا للدولة المارقة التي تجد نفسها فوق القانون، فالرئيس السوري بشار الأسد يتمتع حتى الآن بحصانة فعلية من ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية بفضل الحماية التي يلقاها نظام دمشق من روسيا.

إن قائمة "المناطق المحصنة ضد الملاحقات" بفضل الحماية التي تلقاها من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي تمتد لتشمل سريلانكا وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. إن مثل هذه "الحصانة" هي التي تشوه الميدان الذي تعمل فيه المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يضعها في قفص الاتهام حيث انها تظهر أن القانون لا يطبق على الجميع، بل إن بعض القادة والحكام يفلتون من العقاب رغم ما قد يكونون قد ارتكبوه من جرائم يندى لها الجبين، وهو يقوض مصداقية المحكمة الجنائية الدولية. هذا أيضا ما يجعل دعاة المحاسبة يعبرون عن شدة إحباطهم من أداء هذه المحكمة الدولية رفضا منهم لازدواجية المعايير.

إن قادة الحكومات الملاحقين يدينون اليوم ممارسات المحكمة الجنائية الدولية ويعبرون أنها تخدم أهدافا سياسية معينة تصب في صالح القوى الكبرى. إن أمثال هؤلاء القادة يخشون أيضا تنامي قوة ودور المحكمة الجنائية الدولية التي تسعى لتكريس سيادة القانون وتوسيع نطاق تطبيقه. إن هذه الدول تتحدث أحيانا عن أهمية المحاكمات التي تقام داخلها بدون الحاجة إلى الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية، غير أنه فاتهم أن هذه المحاكمات التي تقام داخل هذه الدول المعنية صورية في أغلبيتها.

لعل ما زاد الطين بلة أن بعض الدول الكبرى التي تدافع عن القانون والعدالة وتحول القضايا من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية الدولية ما تلبث أن تتخلى عن هذه المحكمة بمجرد تغير الظروف السياسية. يجب على دعاة العدالة الحقيقية أن يتنبهوا دائما إلى مثل هذه المعايير المزدوجة التي تشوب عمل المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن عديد النقائص الأخرى سعيا لتلافيها.

? مدير برنامج العدالة الدولية

في منظمة هيومن رايتس ووتش

إنترناشيونال هيرالد تربيون



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة