في لوحةِ التشكيليةِ السعودية (شادية عالم) مواضع للحنين وأسرار امرأة تجرّ من خلفِها تاريخَ مدينةٍ عربية عريقة
 تاريخ النشر : السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢
بقلم: علي الستراوي
بين كسرِ كل ما هو مألوف ومتعارف عليه والذهاب نحو تفتيت الأشياء والاتيان بما يخالف هذا المألوف تسير تجاربُ الفنانة السعودية »شادية عالم« في رسم معالم لوحتها الفنية التي كثيرا ما كانت لهذه اللوحة أبعادها المتجاوزة والمتخاصمة مع واقعها في آن واحد.
فهي منذ أن عرفها جمهورُ الفن التشكيلي من خلال تجاربها الفنية لم تستقر على حالة واحدة؛ مرة يذهب بها الحلمُ نحو سحيق المجهول وأسوار التاريخ وأخرى يعيدُها طفلة تلعب بألوانها وبأشيائها المتناثرة التي التقطتها من البيئة ومن خلال علاقتها ونظرتها لكل ما يحيطها ويسورها، فهي تجمع بين العلاقة الانسانية في واقعها وبين الحلم الذي يخترقُ مسامات جسدِها محدثا تغيرا ذا معالم عنيفةٍ، قد تنفرُ منها العين لكنها بعد تأمل مستفيضٍ واستشراف لعوالم واقع اللوحة تستقرُ العينُ في تأملها على انها بين فنٍ يأخذُ نظرَها إلى تجليات فنية لم تكن سوى جدل جميل حفز الذاكرة، إلى أن تقرأه شيئا مختلفا عما سبق من أعمال، فهي لديها الجديد الذي تقدمه فتتجاوز ما قدمته سابقا وتسير نحو البحث عن غير المألوف في أعمالها، لأنها كما قالت في اكثر من لقاء انها تؤمن أن التغيير في تركيبة الجسد الفني هو من صميم أهدافها نحو رسالة الفن التي تؤمن بها أشد ايمانا، وأن الرسالة يجب ألا تقف عند فاصل واحد إنما عليها أن تفتت كل ما هو مألوف إلى شيء غير مألوف ونحو مغامرة جديدة تقود صاحبها نحو حلم ما واقعا كان أم خيالا.
- وتشير (شادية عالم) إلى أن مفهوم التجاوز بالنسبة إليها هو كيف لها كفنانة أن تنشئ من الشيء العادي ذلك البعد المغاير وغير العادي، بمعنى انها أي شادية عالم تنبش المتناقضات الجميلة في الأشياء المرئية وغير المرئية ذاهبة بها نحو المغامرة التي تعني بها تفتيت كل ما تراه أو تتعامل معه والسير به نحو فكرة ورؤى جديدة ليس لها من الواقع سوى ذاكرة غير مألوفة، وغير متعارف عليها في الواقع وحيث تحيل الاشياء العادية إلى أشياء غير عادية، وهي صور ضمنتها الاحتمالات والمغامرة في مفهومها بين الشك وواقع قد يكون متنافرا لكنه موجود في عالم الفن.
فلو نظرنا بتمعن في أعمال الفنانة (شادية عالم) في أكثر معارضها لرأينا ذلك الخيط المشدود نحو تجاوزات امرأة حالمة تنظر إلى العالم من زاوية إنسانية وتاريخية عبر ملاحم بطولية وانكسارات متعبة.
تقف شادية عالم كفنانة عربية لتنظر إلى معاناتها من زاوية جماعية، وتعني (العالم) بما فيه من ارهاصات تشتد أحيانا وفي كثير من الأحايين ترتخي لتجعل من دائرة الطاحونة الحياتية مشجبا عالقا بالحياة.
مسيرة جعلت من شادية عالم الفنانة التي تحملُ جرابَها الفني عبر العالم المتسع بالحلم والخوف لتوقع رسالتها في جدار المنع أحيانا وأخرى تساير اللعبة كي تصل بحلمها إلى شاطئ الأمان.
وقد اعتادت الفنانة أن تلعب بريشتها فلم تسلم من عنائها حتى اهدتها السبيلين نحو لوحة تحتمل الحلم والواقع معا.
وعلى امتداد البصر في كل تجاربها يبرز اللون الفني معجونا ببعد الفنانة شادية عالم الفلسفي الذي تقيس به الأشياء عبر لوحة تجمع في نهجها بعدا بصريا يأخذ حيزا كبيرا من صور الفوتوغرافيا وبين لغة حاسوبية اشتغلت عليها الفنانة بأزميلها على جسد اللوحة البصرية، فهناك لوحة لجدار وسلك وأخرى لثلاث نساء يقطعن الشارع.
هذا في القسم الأول من تجاربها التي شكلتها عبر معارضها الشخصية التي وضعتها بصورتها الفنية وبشكل أفضل مما تراه هي كفنانة لانها مؤمنة أن عين المشاهد لاعمالها اكبر شاهد على نجاح تجربتها التي اشارت لها على انها احتمالات جديدة ومختلفة الغاية منها.
وأن يقترب المشاهد اكثر من أعمالها ويكشف هو بنفسه لعبتها الفنية هي غايتها التي ترجوها، فالاشياء التي تحيط بنا كبشر تتضمن واقعا وحلما.
شادية عالم بين حلم إبداعي وآخر انساني من ضمن الأعمال التي اختارت عنوانا لها: أسلاك ومطر.. تقول عالم عنها انها: تنظر للأشياء بمنظورها الفني، معتبرة أن الاسلاك هي كل شيء قاس ومؤذ يحجز ضوء الشمس عنا ويسجن أحلامنا، وهي الموانع التي تلاحقنا على طول البسيطة من الأرض وليس للمرء فكاك منها إلا من خلال تجاوزها وتركها خلف ظهره، فهي القاسية والسجن الكبير على أطراف أجسادنا اللينة.
الفنانة عالم تؤكد رسالتها الفنية عندما تقول: عند بوابة لا أرى من خلالها شيئا آخر سوى الشمس وهي الرفيق الجميل واللين في اختراق عالمي الحسي من خلال خيوطها التي تخترق نوافذنا المفتوحة على الحياة، وهي تعكس ما أراه وتتصدى لكل مانع يقسو على اطرافنا اللينة.
فالكثير من الحنين يداخلني ويشغلني قد وظفته بعيون بصرية عبر لغة تجمع الفوتوغرافيا مع الصورة الملتقطة معا إلى حركة تجريد قد لعبتُ عليها بلغة الحداثة بين حاسوب متمكن من فضح وسبر أغوار ما نراه.
أو عبر وجوه نسائية كأنها من ارض سبأ او من مدينة عربية زرعتها الذاكرة في فضاء ملكة الفن.
المرأة الواعية في جرة سليمان الحكيم
هو حلم حلمتْ به ذات يوم الفنانة شادية عالم من عمق الرسالات الإنسانية التي قدمت شواهدها التاريخية وبقيت تلوكها الذاكرة العربية من حضارة لأخرى كالحلم بين دهاليز ذاكرة شادية الواعية والكامنة، وكانت تفر في البدء من هذه الملاحقة لكنها أصرت على اختراق عالمها الحسي مستعينة بانتمائها البشري الإنساني وبالموروث التاريخي الكبير، فصورت تلك المرأة التي زارتها في الحلم بالمرأة البيضاء ذات الوجوه المتعددة الأسارير.
والتي شكلت لها معالمها التي أهداها اليها ذلك الحلم، فكانت أقرب منها للخيال، وكانت واقع المرأة التي آمنت انها ولادة لكل الاشياء وسرها الذي لا يبور في عالمنا الكبير، بل في حضارتنا التي عَرفت تجلياتها.
من هنا أصبح خيط الحلم عند شادية عالم واقعا لتلك المرأة التي اخذت فضاءها من مدينة قديمة يقول التاريخ عنها انها مدينة سادت ثم بادت وكان اسمها »وبار« وهي مدينة عربية قديمة، حلمت الفنانة شادية عالم بأن تعيدها وكان حلمها عبر تلك الوجوه التي مثلت بها واقع الحياة في هذه المدينة بناسها قبل ابنيتها، فالذي يعنيها من تلك المدينة هم الناس، بما حملوه من إرث ذلك التاريخ وتلك المدن والعادات والتقاليد التي قرأنا شواهدها في مسيرة التاريخ العربي الإنساني أو عبر وجوه اولئك النساء اللاتي تنوعت اشكالهن في اللوحة بين الحزن والاندهاش وبين الغفلة والسرحان وبين التأمل والتيه في عالم الرؤية والخيال، مما جعلها كمفاصل منفصلة ومتحدة في آن في لوحة عالم الفنانة.
ولم تغفل شادية البعد التاريخي في المدينة الذي استحضرته من خلال واقع امرأة ذات وجوه مختلفة. معتبرة شادية عالم المرأةَ انها هي الشيء المهم والخصب في كل الأشياء التي تحيط بنا، وهي الجدل من كل شيء في حضارتنا العربية بل في كل الحضارات، فعندما حلمت، لم يكن الحلم بالنسبة إليها بارزا بالشكل المرئي في ذاكرتها، لكنها حيال تلك الوجوه حددت اطرافه فسبرت غوره فكانت تراه متجاورا بذاكرتها.
من هنا تسللتُ خيوط إبرتها وكونت لغة حلمها عبر لوحة رأتها بمثابة كل امرأة تعيش في عالمها المعاصر.
شادية عالم سفيرة لا تهدأ ولا تملّ السردَ الحكائي.
في الجهة الأخرى من حكاية اللوحة الفنية عند الفنانة السعودية شادية عالم نقرأ بعدين: بعدا فنيا يحيل الجماد إلى حركة وبعدا آخر حكائيا ينطوي في حكاية السرد الأدبي.
ذانك البعدان لا يكتشفهما المتتبع لأعمال شادية عالم من أول لحظة لكنها بالتأمل لمفاصل اللوحة من ناحية البناء الفني واستحضار الفنانة عبر خطوط اللوحة وعبر ألوان وشواهد ومواقف سكنت ذاكرة عالم الفنية فأحالته حكاية سردية في المضمون.
ومن هنا قد يكتشف المتتبع لريشة شادية وعالمها الفني ذلك الاتصال الفني وتوحده بالاتصال الأدبي المثقف في توحيد مفاصل الحكاية.
فاللوحة لم تأت من فراغ في ريشة عالم انما اتت من ثقافة عالية امتلكتها عالم فأحالت بوحها رسالة فنية وثقافية انسانية قربتها من حركة التاريخ والتغيرات التي تعاقبت على الحضارات الإنسانية.
فلم تنفصل الفنانة شادية عالم عن امرأة تسكن المدينة العربية ويشغلها ذلك البعد الجارف من الحنين الجمعي في عالم متغير.
وخير شاهد على ابداع شادية عالم ما قاله عنها الناقد الكبير أسعد عرابي: »تعتبر شادية عالم رمزا حداثيا متقدما مشبعا بعبق الثقافة السعودية.
ذلك العبق الثقافي ليس منحصرا في البعد الجغرافي لكنه حكاية متصلة معا بالبعد التاريخي العميق«.
من سيرة شادية عالم الفنية
»تعيد شادية عالم بحرية مطلقة بناء وتشكيل العناصر والكائنات، فتمتد التضاريس عندها من الوجه إلى بطن الجبل مرورا بالأنسجة، مؤكدة بذلك حالة التكامل بين أرواح تلك العناصر«.
من مواليد مكة المكرمة.
عضو بيت التشكيليين، جدة.
.
مقالات أخرى...
- عالم ملون وصور بالأبيض والأسود - (28 يوليو 2012)
- جورج البهجوري.. فنان يحمل الرقم «واحد» في المسابقات العالمية - (28 يوليو 2012)
- قصة قصيرة قصيدة للشاعر الهندي جوش ماليهبادي - (28 يوليو 2012)
- قصة قصيرة إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح - (28 يوليو 2012)
- ثنائية الواقع والمتخيل في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (٤-٤) - (28 يوليو 2012)
- قضايا ثقافية البديل أم الدليل؟ - (28 يوليو 2012)
- مرتان - (28 يوليو 2012)
- ثنائية الواقع والمتخيل في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (٣-٤) - (21 يوليو 2012)
- قصة قصيرة دفء الأشياء (٢) - (21 يوليو 2012)