قصة قصيرة
إغلاقُ المتحفِ لدواعي الإصلاح
 تاريخ النشر : السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢
بقلم: عبدالله خليفة
لم تدوِّ الصفاراتُ، لم تتركزْ الأضواءُ على شخصهِ، لم تستطعْ الجدرانُ الرفيعةُ أن تقبضَ على شبحهِ الطائرِ، لم يقدرْ الحراسُ على رؤيتهِ، ولا الزجاجَ أن يخترقَ روحَه.
لإبراهيم تاريخٌ طويلٌ مع التراب، حيث صار خلداً، ومع النوارسِ التي طارتْ به قربَ الصواري، وهو رثُ الثيابِ، عادي، يومي، حاولتْ المدينةُ الضخمةُ أن تجثمَ فوق ضلوعهِ وتصيرهُ حفريةً ولم تستطع.
ثمة شيءٌ من تاريخِ النارِ، وتشكيلِ الصلصالِ، رغم أن كلَ الحِرفيين الكبار ذابتْ عظامُهم، أو بارَ طينهم، أو قُطعتْ أصابعُهم، أو سكنتْ أرواحُهم في خلاياه.
ليس سهلاً الدخولُ في المتحفِ، المحروسِ بالكهرباء، وبكتيبةٍ من الأشباح، وبالعقولِ المرتبطةِ بالأفلاكِ والأقمارِ ذات الحرابِ، والذي لا يُفتح سوى للأغرابِ والعمالقةِ والشياطين، وحين تهتز ضلفتاهُ الهائلتانِ تهتزلا الأرضُ ويتدفق المدُ حولَه مالئاً الروافدَ الناضبة، والمجاري المعشوشبةَ بالعظام، فتتفجرُ الجدرانُ بالأضواءِ والألوان.
سنواتٌ طويلةٌ وإبراهيم ينسجُ شباكه، ويصنعُ المحارَ ليصطادَ السمك ويقطعَ رؤوسه ويصنعَ السندباد، الكوخُ الذي كان على الطرف المقابل للمتحف احترق، ولم تبق عدةُ السحرِ التي خلفها أبوه، وغدت أمهُ بائعةً متجولةً للحِكم والهذيان والأحلام.
يحملُ فأساً ضوئية، وأمامه تمثالٌ كبيرٌ، يرتفعُ حتى السماء يخترقُ السقف، وتدورُ حوله الغيومُ وتعيشُ طيورٌ وتدورُ أقمار، يتطلعُ فيه بعينيهِ الواسعتين الهائلتين، هذا هو الرجلُ الذي حولَ الرمالَ إلى ناطحاتِ سحاب، وسواحلَ البحر لفنادق مغلقة ترقدُ على البساطِ الشعبي، والناس إلى ذرات مشعة بالكربون.
راحَ إبراهيم يوهجُ ويوغلُ في الساقين الهائلتين، يغرزُ فيهما ضوءًا وأسئلةً ونصوصاً وفراشات وشصوصاً والأسماكُ المحبوسةُ تتدفقُ والأشجارُ الميتةُ تنظر وتتكلم، وصرخاتُ أزقةٍ مخدرة تتفجر، وأغان محاصرة تظهر.
يهتزُ الرأسُ الكبيرُ، كأن صواعقُ تضربه، الرأسُ يتكهرب وينحني برعب.
يصرخ إبراهيم:
- أضربْ الساقين الهائلتين المستندتين على الشجر الذابل وصخور القلاع القديمة المُباعة في الأسواق والمتاحف الأجنبية، اضربْ بالضوء الصخر المتوج فوق أطلال الطفولة، اضربْ ساقاً نخرة هربت منها المعادن الثمينة!
نزل الرأسُ قليلاً، انحنى، أصدر أصواتاً مرعدة.
الساقان الضخمتان تغوران، تتقزمان، والرأس يهتز في الفضاء بعنف، وتطير الأقمارُ بعيداً، تصطدم بالبنايات الناطحات، وتتفجر النيران، وتعلو دوائرُ السحبِ السوداء وألسنةُ الحرائق السعيدة وبقايا الموسيقى المحتضرة، وتتساقط فيشاتُ القمارِ الرهيبة الأعداد، وأقنعة الخاسرين والرابحين الهائلة الطائرة الساقطة على المياه.
الرأسُ الكبير يتقلقل، لا يقدر على الدخول من فتحة المتحف، تتكسر جدران، وتتفجر صفاراتُ الانذار، وتسرع سياراتُ النجدة والطوارئ السكرى بموسيقى الانذار.
الرأس لا يدخل من الفتحة الضيقة، بدأْ ينشرخُ وفمُه يعوجُ وأنفُه يتكسر.
نثارُ الصخورِ والرماد والعظام والدخان يملأ المتحف.
شظايا هائلة تتساقط.
الرأس يغدو رأسين، أحدهما مذعورٌ والثاني نائم.
ملوكٌ قدامى واقفون بمهابةٍ طويلةٍ في الأسفل مطمئنون في قرونِهم البعيدة، وتيجانُهم الذهبيةُ المضيئةُ استُبدلت مراراً بمعادن مختلفة، راحتْ تبعثُ رعوداً وضياءً، يهتزون، ويتقلقلون، ويسقطون واحداً بعد آخر.
تتساقط الأثوابُ الملونةُ والعباءاتُ الرماديةُ الطاعنة في الغبار، فتظهرُ الهياكلُ العظميةُ الجافةُ الجائعةُ للحم، تتكسر، تنفلتُ سيقانُها من كياناتِها المفككة، يمشي بعضُها ويسقط، يهربُ اثنان عبر الممراتِ وبين الحراس المذهولين والمصابين بانهيارات عصبية وبسكتاتٍ دماغية بسبب عدم دفع المعاشات لشهور طويلة.
يتقلقلُ رأسٌ من الرأسين، يدخلُ من الفتحة ونصف أنفه الباقي يُقتلع بقوة، فيصحو الرأس الآخر على الضجة العنيفة، وعينٌ واحدةٌ باقيةٌ تتسع لدرجة مخيفة حتى تصبح تنوراً مشتعلاً.
ينهار الرأسُ الأولُ على الأجسام الزجاجية والسهام الصغيرة والرماح الصدئة للصيادين المذعورين الهاربين من الغابة، وتنتفضُ النسوةُ الجالساتث حول النار، ويتحول المقهى الشعبي ورواده إلى بخور.
يُصابُ إبراهيم بشظايا، جسمه يشتعل.
يتقدم لتمثال الابن الضخم الذي كان ينظرُ برعبٍ لتصدع والده، ثم أخذ يتلقطُ الغبارَ المتكونَ المتناثر من عَظَمتهِ وعظامه.
الابنُ يرفعُ كلتي يديه غاضباً ويحاول أن يخرج من الحفرتين العميقتين فيرفع رجلاً أولى ووجهه كله ممتلئ بصرخة مدوية، ويقترب منه إبراهيم، يضربُ بحدةٍ على القدم، الفأسُ تصنعُ عاصفةً من غيم وبروق، وتقطع نصف ساقه فيظل يهتز.
الأمُ الملكيةُ كانت قريبةً تحملُ بين يديها حشداً من اليتامى والمصابين بالكساح، عالجها إبراهيم بصاعقة سرت كتيار ضوئي برقي من قدمها حتى لسانها المتجمد فجأة.
تساقط الأطفالُ من بين ذراعيها الضخمتين وثدييها الهائلين، وراحوا يركضون بفرح داخل المبنى المنهار وهم يستعيدون أرجلهم ووجوههم وألعابهم.
الابنُ الشابُ حاول أن يتقدمَ نحو إبراهيم وقد امتلأ بغضب شديد، ودعا بقايا الجنود وفرسان العصور الغابرة والقصاص وعازفي الربابات وممثلي المسلسلات في الخيام للهجوم، واندفع هؤلاء نحو الأبواب المتكسرة والمشتعلة وهم يرددون صيحات الحرب ويذوبون في الشوارع التي امتلأت بالبخار والحطام.
احتدتْ الأمُ وهزتْ السقفَ وتساقطتْ قطعُهُ الكبرى ونجومُهُ والفرقُ الموسيقية والراقصون في القاعة وراح إبراهيم يجري لكنه سقط تحت الأشياء والأشلاء والبقايا والصرخات والعظام المتحركة والهياكل العظمية الباحثة عن الخلود.
لا يرى سوى ومضات صغيرة من خراب وصواعق ترتفع نحو الفضاء وكائنات هائلة تتدفق من السماء والشجر والضوء.
.
مقالات أخرى...
- عالم ملون وصور بالأبيض والأسود - (28 يوليو 2012)
- جورج البهجوري.. فنان يحمل الرقم «واحد» في المسابقات العالمية - (28 يوليو 2012)
- قصة قصيرة قصيدة للشاعر الهندي جوش ماليهبادي - (28 يوليو 2012)
- ثنائية الواقع والمتخيل في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (٤-٤) - (28 يوليو 2012)
- قضايا ثقافية البديل أم الدليل؟ - (28 يوليو 2012)
- مرتان - (28 يوليو 2012)
- في لوحةِ التشكيليةِ السعودية (شادية عالم) مواضع للحنين وأسرار امرأة تجرّ من خلفِها تاريخَ مدينةٍ عربية عريقة - (28 يوليو 2012)
- ثنائية الواقع والمتخيل في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (٣-٤) - (21 يوليو 2012)
- قصة قصيرة دفء الأشياء (٢) - (21 يوليو 2012)