الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٥ - السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٩ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

ثنائية الواقع والمتخيل
في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (٤-٤)





وفي ضوء ما سبق يمكننا القول ان الروائية كانت متخفية في النص، حيث إشكالية التداخل بين سلطة الراوية أو الساردة، وسلطة الكاتبة، إذ برز اتجاهان في العمل الروائي، الأول تحملته الساردة طوال مسيرة العمل، أما الثاني فقد كانت الكاتبة وراءه، فكيف لفهدة التي تؤكد أنها تعلمت الأدب والفن والموسيقى بعد زواجها من ضاري، ومناقشة الشعر ونقده لا يعرفه إلا من له خبرة بأدوات التعامل معه، أو حين الحديث عن الفنون التشكيلية العالمية، وطبيعة أعمال الفنانين، وبخاصة أن النص تحدث عن أعمال رينوار، وفان جوخ، وبيكاسو، وبعض الشعراء أيضًا، مثل: رامبو، وهنري ميشو، وبودلير، كذلك ما يتعلق بالمسائل العلمية كالمخلفات والأفلام (النجتيفات)، واستخلاص الفضة والذهب؟

لا يعيب هذا العمل الروائي، بل هناك الكثير من التجارب العالمية التي طرحت مسائل علمية، وفنية، وصوفية، وغيرها، ألم يناقش باولو إيكويلو التركيبات الكيميائية في رواية الخيميائي؟ ألم يشرح بالتفصيل باتريك زوسكند تركيبات العطور في رواية العطر؟ ألم تطرح رجاء عالم كيفية تدريس الأطفال القصص ذات الرسومات والألوان في رواية ستر؟ إذًا لم يعد هناك شيء ممنوعا دخوله في عالم الرواية مهما كان طالما يسهم في العملية الإبداعية، ويزيد من جمالية النص.

والحياة لا تبقى على طبيعة واحدة، وذات نهج واحد، فهي غير ساكنة، وإنما في حراك دائم، ومتفاعل مع كل الموجودات حولها، والظواهر فيها، فالإنسان يتغير، وتركيبة الحياة لا تقف عند حد معين، بل يطرأ عليها التغيير كما يطرأ على البنى الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وكل نظم الدول قادرة على احتضان فلسفة التغيير، ولأن الرواية جنس أدبي يدخل ضمن نطاق العلوم الإنسانية، فمن المؤكد أن التغيير يطرأ عليها تحديثًا وتطورًا، وقد قال عنها باختين انها الجنس الذي لم يكتمل، فكلما حاولت الرواية التجريب، واستقبال أجناس أدبية أخرى، كان التحدي في بناء العلاقة بين النص الروائي والمتلقي، وبقدر ما يتمكن المبدع من محاورة الواقع الذي يراه هو في نصه، يكون هذا النص حاملاً بعض الدلائل التي تشير إلى ما هو غير مألوف، ومعتاد في تناول الواقع، وبخاصة حين يحاول المبدع كشف الأستار عن قضايا مسكوت عنها، وتجعل من تلقينا إياها نوعًا من التشويش أو الاستفزاز أو الدهشة.

أليس من حق المبدع أن يرمز ويوظف المجاز في الكتابة، وقول ما يريده من الحقيقة، وبخاصة أن الكتابة الإبداعية عادة ما تتطلب عالمًا من الخيال، وكلما كانت ذهنية المبدع قادرة على الحليق عاليًا وبما يريد قوله ومناقشته، في ضوء الصورة الذهنية والمتخيلة برزت الرموز والعلامات والإشارات، وأساليب البناء؟ لذلك لا ينبغي أن يكون هناك رقيب على النص الإبداعي من أجل محاسبته ومحاكمته أخلاقيٌّا، فالحكم بهذا المنظار يجعل النص متعريًا من ثوبه الإبداعي والجمالي والفني ليكون قالبًا مؤطرًا بالقيم الأخلاقية والاجتماعية، وتكون محاكمته في مناقشته لكل ما هو كان مسكوتًا عنه في الأدبيات السابقة، أو ممنوعًا الحديث فيه، فبدلاً من محاكمة النص محاكمة أخلاقية، أن نتجه بالنص نحو دراسته وتحليله، ومحاورة حالة القلق التي تنبري بين الحين والآخر من خلال الأحداث والشخصيـات، ومناقشة الوعي المجتمعي الفردي والجمعي، وما ينبغي طرحه عبر هذا العمل أو ذلك في ضوء سياقات المجتمع الذي نحلم به.

ومن هنا يقع الكاتب العربي عامة، والمبدع على وجه الخصوص في حيرة من أمر البحث عن عناصر التحديث والتطوير في البناء النصي للعمل، وبين ما تربى عليه أو عرفه في ماضيه الكتابي، لذا فالمبدع عليه أن »ينظر بعشرات الأعين، ويسمع بمئات الآذان، وأن يعاني التفكير على مستويات متعددة، وفي مجالات متباعدة في وقت واحد، ومحكوم عليه التوتر بين أقصى شروط التقدم، وأقسى شروط التخلف التي يعيشها، ويحاول الخلاص منها، باحثًا عن أفق جديد للإبداع الذي يحقق له اكتمال هويته في عالم متغير...«.(١)

إننا نرغب أن ينظر إلى النص في سياق الإبداع والخيال، ومناقشة مدى تقارب النص في مناقشة القضايا التي تهم المجتمع، لذلك فإن الجرأة التي تمثلت في النص لم تكن بهدف المزايدة، أو الرغبة في الانتشار والشهرة، لأن مجمل أعمالها لم تخرج عن تلك الثيمات التي كانت ولاتزال تناقشها، فالمرأة عند الكاتبة ومن خلال نصوصها الروائية هي المرأة الأنثى من المنظور البيولوجي، والمرأة هي الإنسان من المنظور الاجتماعي، والمرأة في الإنسان من المنظور الثقافي.

وبمعنى أن المرأة تأخذ الحالة الجندرية، ومن تابع أعمالها الروائية فإنه يكتشف أن الجسد كان مهانًا من قبل الرجل بشكل صارخ في رواية الشمس مذبوحة والليل محبوس، وجاء الجسد مثيرًا للرجل في رواية النواخذة، ومتقابلاً مع جسد الرجل ومتحاورًا معه في رواية مزون وردة الصحراء، وراغبًا على استحياء في رواية حجر على حجر، مما يؤكد مشروعها الإبداعي في الكتابة النسوية المطالبة باحترام المرأة جسدًا، وما يحمله من عواطف وأحاسيس، وثقافة، وفكرًا، وما يتمظهر من وعي مجتمعي وإنساني وكوني، وإبداعًا، وما يكشف عن هذا الكيان من قيم فنية وجمالية لا يمكن تجاهلها.التجربة الروائية

والأعمال الروائية للكاتبة فوزية السالم تحيل إلى رأي رومان انجاردن من »ان العمل الأدبي يمنحنا مظاهر تخطيطية تجعل القارئ على علاقة وثيقة بالعمل الأدبي، ويمكن من خلالها إنتاج الموضوع الجمالي«(٢)، أي حين نجعل النص الإبداعي محل الاهتمام والتأمل فذلك يعطينا البعدين الفني وهو النص نفسه، والجمالي الذي يسعى القارئ إلى أن ينجزه عبر استنطاق النص ومفرداته. وهناك البعد الآخر المتمثل في الدربة والدراية الواعيتين بالعمل، وكيفية الكتابة فيه، وتوظيف الراوي وتعدد الرواة، وفي جمالية الوصف للأمكنة، حتى تجعل هذا المكون أو ذاك متناغمًا مع زمنية الحدث، ولغة الشخصية. ومن خلال متابعة أعمالها الروائية نرى أن الكاتبة تجهد نفسها، وقلمها في الاهتمام بجماليات المعمار لهيكل الرواية، وفي جزئياته، وفي مرجعياته الواقعية التي يرفضها امبرتو إيكو، ومرجعياته الثقافية.

إذا كانت الثنائيات بين أحداث الرواية، من السمات المهمة، فإن مشروع الروائية يعطيك ما يتقارب تطابقًا وتضادٌّا مع أعمالها السردية الأخرى، سواء في الأمكنة، ونمو الأحداث وتشابكها، أم في طبيعة الشخصيات وتطورها الزمني والروائي، ومن أمثلة ذلك، ما نجده في تركيبة شخصية ضاري في سلالم النهار، وخالد في رواية مزون وردة الصحراء، إذ يكون نهاية كليهما هي الموت المفاجئ، الموت الذي وقع خارج الكويت، بل الاثنان لهما علاقة بالتجارة والمال، إلا أن المفارقة في هذين الزوجين أن خالدا لم يعط مزون فرصة الأمومة، عكس ضاري الذي أوصلها إلى هذا الحلم من دون رغبته. وفي ذات الوقت هناك علاقة تشابه بين ضاري المريض بجسد الأنثى، وممارسة السلطة الذكورية والفحولية من دون اعتبار لمن يحمل هذا الجسد، وبين السيد الذي لم يتوان لحظة من مضاجعة وممارسة الجنس الحيواني مع وضحة في روايتي الشمس مذبوحة والليل محبوس، والاثنان لهما علاقة بالتجارة والمال أيضًا.

وبالعودة إلى أعمال الكاتبة الروائية، وتوظيف شخصية المرأة وبنائها، نجد أن المرأة في الرواية الأولى الشمس مذبوحة برزت المرأة وهي ضعيفة، ولا تقوى على حراك، أو رفض، معذبة نفسيا وجسديا من الزوج الذي ينتهك جسدها كلما أراد، وبالشكل الذي يرغب، فلا تقوى المرأة هنا على مقاومة سلطة الرجل الجسدية أو الجنسية أو الاجتماعية، وهذا قد حدث لفهدة في رواية سلالم النهار حيث لم تقاوم شغف ضاري تجاهها بكل أنواعه، المبتذل وغير المبتذل، وهنا تلاق أيضًا بين الفتاة الجارية (جنة) التي جلبت من الدول الافريقية، ثم أصحبت زوجة إبراهيم العود في رواية النواخذة، فهي من قاع المجتمع بحسب نص الرواية، وكذلك فهدة التي عرفها ضاري في إحدى جلسات الرقص والأنس من دون أن يعرف عنها شيئًا، وهي من الفئات المهمشة في المجتمع، وزواج كلتيهما كان سبب الجسد الأنثوي، وإيماءاته.

أشارت أعمالها وبالتفصيل إلى المغامرة والتحدي من قبل المرأة، تجاه المكونات الاجتماعية والأعراف، إذ فرضت صيتة في رواية النواخذة على أن تكون زوجة لعبدالله بن إبراهيم العود، وفرضت زيانة في رواية مزون لتكون عشيقة إيف الرجل الفرنسي من دون اعتبار لأي عرف غير عرف الحب والعلاقات العاطفية، وراشيل التي قامت برحلة المغامرة من الأندلس حتى اليمن مرورًا بالهند في رواية حجر على حجر، وكذلك نجد المرأة المتحدية في رواية السيرة الذاتية رجيم الكلام، »تقتحم عاملة النظافة المبنى الضخم لوزارة الخارجية.. عاملة النظافة تحمل »بكالوريوس وماجستير« في علم الحاسوب وفنونه، وشهرتها خبيرة كمبيوتر...«(٣)، تلك المرأة التي تحدت كل القيود والأوامر التي فرضها الغزو العراقي على الكويت في الثاني من أغسطس ١٩٩٠، وأصرت على حماية أسرار دولتها، (مع المفارقة في بناء الشخصيات بين المتخيلة والواقعية، تلك التي الشخصية التي نقف لها إجلالا واحترامًا) كذلك نجد فهدة كانت تغامر بنفسها في تغطيـة علاقات نورة مع زيـاد، وغير ذلك من التشابهـات والتقابـلات في الأدوار النسويـة من قوة أو ضعف، كأن هذا يشير بشكل غير مباشر.

والملفت إلى النظر أن الشخصيات النسوية نفسها التي بنتها الكاتبة شخصيات شابة، ومقبلة على الحياة، وراغبة في الثقافة، والتحصيل المعرفي، عدا وضحة في الرواية الأولى، بمعنى أن أعمالها تسهم في انتصار المرأة على الرجل ليس في بعديها الاجتماعي و»السلطوي«، وإنما في جعلها الأكثر انتشارًا في مجمل أعمالها السردية، بوصفها راوية فاضحة وكاشفة لبنى المجتمع، والقادرة على اللعبة اللغوية التي أوصلت النص إلى أنه نص الأنثى بيولوجيا، ونص المرأة اجتماعيا، ونص المرأة ثقافيا وجندريا، فنصوصها هي نصوص الكتابة النسوية.

وإذا ركزت الكاتبة في أعمالها السابقة على قضايا المرأة بصورة بارزة وجلية، فإن رواية سلالم النهار أبرزت ما يثير الجدل والنقاش، لأنها وقفت على المسكوت عنه اجتماعيٌّا، وثقافيٌّا، وإنسانيٌّا، واقتصاديٌّا، كما احتضنت الرواية عالمًا متنوعًا، ومتشعبًا، ومليئًا بالثقافة، والفكر، والأدب، والفنون، والحضارة، والعلوم البحتة، ونعتقد هي سمة عند الكاتبة التي تحاول أن تخرج بشيء مخالف في البناء والتركيب والشكل السردي منذ رواية النواخذة، لذلك كانت تختار شخصياتها من كل الفئات والأعمار والتوجهات الثقافية والانتماءات الاجتماعية. أما المكان فقد اهتمت به جل الاهتمام وتحديدًا في جمالياته ومكوناته، فجاءت سلطنة عمان في رواية النواخذة، والأفلاج في رواية مزون، واليمن في رواية حجر على حجر، ومسندم في سلالم النهار، والكويت في كل أعمالها، وكأن هناك خطًا رفيعًا يربط هذا التعلق الجمالي بالمكان والكاتبة من جهة، وفضاء العمل السردي من جهة أخرى.

وقد نظر معجب الزهراني لبعض أعمال السالم مقارنًا بها مع أعمال رجاء عالم، قائلاً: »كأننا أمام تجربة كتابة تباشرها ذات تذهب بحقوقها في حريات التفكير، والتخيل، والتعبير إلى المدى القصي دونما خوف من سلطة الثقافة الاجتماعية السائدة، أو من سلطة القارئ المفترض لاحقًا، فنصوصها تتميز بجرأة الموضوع، وشفافية التعبير، فالكتابة عندها مجاز نصي للمرأة الجديدة السائدة المتحررة من كل سلطة غير سلطة الذات على عقلها، وضميرها، وجسدها الفردي الحميمي الخاص، أما نصوص رجاء عالم فإنها تكتسب خصوصيتها وتفردها من معين التراث، وخطابات التصوف والعجيب والخارق التي تمتلئ بها ثقافتنا العارفة والشعبية، فنصوصها تتميز بكثافة رموزها التعبيرية، والتباس شفراتها الدلالية، فالكتابة عندها مجاز امرأة حديثة فاتنة، لكنها متحجبة في أزياء عجيبة غريبة تسترها بقدر ما تحيلها إلى كائن ملتبس لا تعرف هويته على وجه الدقة«.(٤)

يشكل النص الروائي نظامًا لغويٌّا من النظر إلى طول هذا النص أو قصره، ويختلف هذا النظام عن النظام اللغوي المتداول اليومي في الواقع المعيش، فالنص هو »نظام لغوي يتجاوز الدلالة المعجمية البسيطة، ونموذج التواصل اليومي«(٥)، وإن وجدت وبرزت حالات التوافق والاتساق بين النظامين، ولكن وفق وظائف اجتماعية وتواصلية وجمالية وثقافية بين النص ومتلقيه، لذلك تهتم الكاتبة بلغة نصها الروائي أيما اهتمام، حيث التعامل مع مفردات اللغة النصية تأتي ضمن سياقات اجتماعية كما برز ذلك في مشهد ختان الإناث في رواية مزون، وضمن سياق ثقافي كما ظهر في سلالم النهار، وسياق ديني كما برز في حجر على حجر وسلالم النهار أيضًا، وضمن سياق التمرد في رواية النواخذة، فضلا عن سياق اللغة التي تتوافق مع الحالة الحسية والجسدية التي كانت ثيمات أساسية في تجربة الشويش الروائية.

يستطيع القارئ معرفة الفارق اللغوي بين الشخصيات وفقًا للمستوى الاجتماعي والتعليمي والثقافي لها، والقدرة على إعطاء هذا القارئ فرصة الـتأويل، والتفسير، كما حدث مؤخرًا لرواية سلالـم النهـار وتضمينهـا رؤيـة نقدية في الكتابة الشعريـة، وتحليـلاً كيميائيـا، الذي لا نعتبره إلا ضمـن قبول جنس الروايـة كل الأجنـاس، لأن الروايـة هي »الجنس الذي ينفتح متداخلاً مع الأجناس الأخرى، والخاضعة لقوانين التحولات، والتشكلات الجديدة«(٦)، أما إذا أدخلنا الرواية في عصرنا هذا ضمن فضاء الدراسات الثقافية، فهذا يعني كما بينه دوغلاس كلنر حول الرواية التكنولوجية، التي تهدف إلى »كسر الحدود ما بين الفلسفة والأدب والنظرية الاجتماعية ووسائل الاتصال«(٧)، لذا كيف إذًا نقبل مناقشة قضية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية في الرواية، ونرفض مسألة أدبية أو



١ - جابر عصفور، نحو ثقافة مغايرة، ص٦٣-.٦٤

٢ - سامي إسماعيل، جماليات التلقي، ص.١١١

٣- انظر: فوزية السالم، رجيم الكلام، ص٩٩-.١٠٢

٤ - انظر: ندوة: الرواية الخليجية - توصيفات ورؤى، معجب الزهراني، ص١٤٠-.١٤٤

٥- حسين خمري، نظرية النص، ص.٤٣

٦ - معجب العدواني، الكتابة والمحو، ص.١٢٨

٧ - حفناوي بعلي، مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، ص.٣٩













.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة