الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٧ - الاثنين ٣٠ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١١ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

عالم يتغير

الموت والحياة والشعرة الفاصلة





} من رحمة الله بخلقه ألا يعلم الإنسان متى وكيف يموت، وفي أي أرض يتم دفنه، ورغم أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحياة، بها تنتهي كل البدايات الفردية لتستمر الحياة بمن يواصل مسيرة النمو والازدهار فيها، فإن أكثر ما يحاول أن ينساه أغلب البشر هو تلك الحقيقة وحدها، التي في رحلتها الغيبية لا يبقى للإنسان إلا عمله،"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"، فيه الميزان العدل الذي لا يخطىء، فشيفرة الأعمال والنيات والأفكار جميعها مخزنة في السر الاكثر غموضا، الذي لا يعرفه إلا الله وهو الروح التي تذهب إلى عالمها، ليبقى الجسد الفاني في التراب.

} كل منا يصاب في حياته بفراق الأحبة والأهل والأصدقاء، ولا شيء أصعب من فراق فجائي لأحدهم، تدور معه خرائط الدنيا، والمصاب الجلل يقف أمامه الإنسان عاجزا، رغم ان الموت أصبح اليوم يحيط بنا في كل مكان، ويتحول فيه الإنسان إلى مجرد رقم تسمعه في الأخبار اليومية، فما بين موت الكوارث وموت الاقتتال وموت التمرد وموت الحروب وموت الشهادة... فلماذا حين يموت قريب منك يكون لموته ما يختزل الرهبة الأصلية وحقيقة الحياة وحقيقة رحلة الإنسان؟ ولولا أن زود الله البشر بنعمة النسيان والقدرة على الاستمرار، والتكيف مع كل المصائب إيمانا واحتسابا، أو بالنسبة إلى الذين لا يؤمنون خضوعا للأمر الواقع، ما استطاع الإنسان مواصلة ما خلق من أجله، لكي يعمر الأرض ويراكم الخبرات والتجارب ويبحر في المعرفة ويتعمق بمعرفته في الرحلة إلى الله، التي كانت ضبابية في الصغر وقلبية في الشباب.

} القوانين التي تحكم هذا الكون وتحكم الطبيعة البشرية ليست مصادفة، ومدارج المعرفة تتنوع أصولها وينابيعها حتى يصل الانسان إلى اليقين في معرفة الله ومعرفة أسراره الذاتية الكامنة فيه بشكل اعجازي، فيقف موقف "المندهش" من حجم الاسرار وحجم الالغاز التي تكتنف رحلته في الحياة، فيرى بعدها كل شيء بقوانين، ولا شيء من فراغ، وليرى الاعجاز في كل شيء، وفي ثنائية الحياة والموت، ففي النهاية ما الحياة الا رحلة في المعرفة ومن يتوقف عند محطة كان فيها خطاء يبقى فيها، ولن يصل إلى الغاية التي خلِق من أجلها، فكل المحطات وكل الدروب وكل الخطوط، توصل الفطرة السليمة في النهاية إلى الله وبعمق فكري وليس مجرد سجية، فمنه كل شيء وإليه يرجع كل شيء.

} هناك مبادئ للوجود أساسية، فإن وضع الإنسان نفسه في التناغم معها ومع المطلق اللامتناهي، أصاب الكثير من المعرفة الحقيقية في رحلته القصيرة في هذه الحياة، وان تنافر مع تلك المبادئ ارتد إليه كل ما أسس له سواء من عمل سيئ أو تفكير خاطئ بأسوأ مما كان يتوقعه، فمن يُعط الخير فلن يجد إلا مثل ما أعطى، ومن يُعط الدمار والخراب والشر، يسجن روحه وقواه فيها، لترتد عليه في النهاية ويحيط به سوء عمله، وهذا قانون إلهي يستحيل دحضه.

} في صبيحة ذلك اليوم الذي فيه ارتحلت تلك المرأة الطيبة، قالت: (سمعت في الفجر مرتين نداء يناديني أن قومي)، وما هي إلا ساعات حتى ألم بها عارض وذهبت في رحلتها الاخيرة. اليوم لم يبق في الذاكرة بشكل راسخ إلا صورة وجهها بعد الارتحال يغطيه نور غريب، وقد صادف رحيلها ليلة جمعة وأول يوم في رمضان، وكان كل من عرفها عرف فيها الصبر على المحن، وطلب فعل الخير بكل وجه من وجوهه، ولاتزال ملاءتها البيضاء وذلك المصباح المضيء بنور أبيض وقرآن الفجر وصلاته، تاركا أثره وطاقته المريحة في الغرفة التي كانت تنام فيها.

ترى من الذي ناداها في فجر يومها ما قبل الأخير؟

} كلنا نعرف أن بين الحياة والموت شعرة. كان سؤالها الذي لا يتوقف: لماذا كل هذا الشر؟ ماذا يريد هؤلاء؟ ألا يحتسبون لرحيلهم المفاجئ حسابا؟ ألا يأخذون العبرة من كتاب الله؟ أليس لهم من دروس في الحياة؟ هي تسأل وتستنكر، ورحلة الشر البشري مستمرة في انتاج شرورها ومفاسدها، ولكأن ليس لديهم وقت للتفكر أو للتأمل.

رحلتها كانت طويلة من فلسطين نكبة ٤٨، وضياع وطن، وشتات جيل، وبعدها أجيال فلسطينية بأكملها، والأم الفلسطينية ركيزة النضال وبناء الحياة وبساطة العطاء، وتربية الأسر، وحيث لا ضوء إلا الإيمان بحكمة الله في خلقه، ولا منجاة ولا ملاذ إلا به وإليه.

رحمك الله يا أم الجميع، وقد اختارت روحك أرض البحرين لتموتي وتدفني فيها، ولتتركي فينا آثارك الطيبة.













.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة