الخيانة درجات
 تاريخ النشر : الأربعاء ١٤ مارس ٢٠١٢
جعفر عباس
كتبت كثيرا عن كيف ان ممارسات وطقوس الزواج في السودان تفقع المرارة، وتسبب التهاب القولون بسبب التعقيد الشديد والكلفة المرتفعة، ولكن أجد نفسي أعود إليها ولو من باب الفضفضة، وتكون بداية تلك الطقوس بـ«فتح الخشم»، الذي هو عندنا الفم، ويقوم بمهمة فتح الخشم الذي هو الفم، اهل العريس اي طالب الزواج، ولا يتم ذلك - كما توحي العبارة - بفتح فم العروس للتأكد من انها شابة بفحص أسنانها، كما يفعل من يشترون الخراف للإيحاء للبائع في الزريبة بأنهم ملمون بالعلوم البيطرية، بل يتم بأن يفتحوا خشومهم التي هي ليست أنوفهم، بل أفواههم طالبين يد العروس في ما يسمى بـ«قولة الخير»، اي ان كل ما هو مطلوب من اهل البنت لتنطلق مراسيم الزواج هو ان يقولوا «إن شاء الله، خير»، وبعدها تتوالى تحركات مريبة ومعقدة من بينها تقديم شبكة، ومهر وملابس، ومواد تموينية.. نعم فعلى العريس ان يقدم لأهل العروس الرز والدقيق والزيت والعدس والسمن وربما الزبادي والكتشاب، وملابس العروس تكون بنظام الأطقم.. مثلا ١٢ قطعة من كل نوع من أنواع الملابس النسائية وعليها بعض المشغولات الذهبية والعطور.. وهناك ليلة الحنة التي يحتفل بها كل طرف بطريقته الخاصة، ثم تأتي الليلة الكبيرة بوليمتها وزغاريدها وأهازيجها وتعقبها «الصبحية» وهي ايضا حفل عام صبيحة ليلة الزفاف، (من الناحية النظرية ولكنه برغم التسمية يقام في المساء)، وتراق فيه دماء العجول والخراف، وهناك «السيرة» وهي زفة العروسين، ولا تكون داخل مبنى كما هو الحال في الدول العربية، بل باستئجار حافلات ضخمة تطوف بأقارب العروسين ارجاء المدينة وتغني خلالها البنات أهازيج معينة، وهناك «قطع الرحط» وهو طقس إفريقي محض يرمز إلى فراق العروس دنيا الآنسات ودخولها دنيا السيدات، وبانتهاء تلك المراسيم يتم نقل معظم العرسان إلى المستشفيات للعلاج من الإرهاق العضوي والسهر او إلى مخافر الشرطة بتهمة اصدار شيكات من دون رصيد.
قبل بضعة أشهر سافر شاب سوداني يعمل في دولة خليجية إلى ارض الوطن لاتمام مراسيم زواجه بالفتاة التي خطبها قبل عدة سنوات، وتوجه مع اهله إلى بيت العروس للاتفاق على الجدول الزمني لمراسيم الزواج، فصاح اهل الفتاة في وجهه: اخرج من بيتنا يا قليل الحياء! هل تحسب بنتنا بائرة لتتزوجها بالأوانطة؟ ما حدث هو ان العريس كان قد ارسل قبل أشهر حقائب ممتلئة بالملابس والهدايا لعروسه مع احد أصدقائه كسبا للوقت، ولكن الصديق «نام» بالحقائب اي صادرها لمصلحته الشخصية ولم تتسلمها العروس كما افترض العريس المرتقب!!
صديق خائن؟ نعم ولكنه ليس أكثر خيانة من أبطال أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وهم العاملون في وحدة الإطفاء في مدينة نيويورك التي استبسل رجالها في انقاذ من كانوا في البرجين ومات منهم ٣٤٣ فردا، فتم تكليف بعضهم برعاية اسر من ماتوا من زملائهم الاطفائيين.. وتولى جيري كوينج شؤون اسرة صديقه الراحل جون بيرجن.. يوصل عياله إلى المدارس ويشتري لأرملته مستلزمات الأكل ويتولى أمور صيانة البيت.. وكل ما يتعلق بشؤون معيشة العائلة... وبلغت به روح التضحية والوفاء انه صار يقوم مقام صديقه الراحل في فراش الزوجية.. إلى ان اكتشفت زوجته الأمر وفضحته عبر صحيفة نيويورك بوست، فكان ان وجدت ١٢ من زوجات الاطفائيين الشجاعة ليحكين كيف ان أزواجهن اقمن علاقات فراش مع زوجات من قتلوا في حادث البرجين في ١١ سبتمبر!! وهكذا يتضح ان خيانة الامانة نسبية، فالزول استولى على ملابس عروس صديقه، في حين أن خواجات اطفائية نيويورك استولوا على عرائس أصدقائهم أنفسهن!
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- ليسوا عربا ولله الحمد - (13 مارس 2012)
- نفسي في دورة مياه بلا مياه - (12 مارس 2012)
- مدام أم مدمرة؟ - (11 مارس 2012)
- نم كثيرا تكن رشيقا - (10 مارس 2012)
- مرحبا بطالبي الرشاقة في وادي النيل! - (9 مارس 2012)
- التخريف شرقي وغربي - (8 مارس 2012)
- ألف باء العولمة - (7 مارس 2012)
- عن شرور المرور - (6 مارس 2012)
- عن الوساخة والنظافة الدولية - (5 مارس 2012)