كي لا تصبح العقول «عجول»
 تاريخ النشر : الأحد ١٨ مارس ٢٠١٢
جعفر عباس
أعتقد أن أهم قرار في مسيرة أي إنسان مازال يتلقى العلم هو: ماذا أدرس؟ أي مادة؟ ولماذا؟ وهل أنا قادر على استيعابها وراغب في دراستها؟ وأين أدرسها (في المرحلة الجامعية)؟ وما هي الفرص التي ستفتحها لي دراسة تلك المادة؟ ولهذا فإنني قبل ان يكمل ولدي او بنتي المرحلة الثانوية كنت أجلس معه أو معها أشهرا طوالا، نستعرض الخريطة الأكاديمية، وقدرات وميول الولد او البنت، ونحصر مجالات التخصص المرغوبة بحيث تكون لدينا نحو ثلاثة خيارات، ثم نحصي تكاليفها المالية، وبعد ذلك نقوم بعمليات بحث وتقص مكثفة لكل جوانب المسألة، والجانب الوحيد الذي أمارس فيه دكتاتورية أبوية، هو ضرورة ان يكون التعليم الجامعي في مؤسسة تعليمية غير عربية.. وأنا لا أعاني من عقدة دونية تجاه كل ما هو أجنبي، بل ان احتكاكي بالأجانب يزيدني اقتناعا بأنني وغيري من الذين يعيشون في العالم العربي نتفوق عليهم في كثير من المجالات الفكرية والثقافية.. ولكن في مجال التعليم «يفتح الله».. لا أريد لعيالي ان يحرزوا تقدير «ممتاز» في الأدب العربي، لأنهم يحفظون معلقة لبيد او زهير او طرفة من دون ان يفهموا واحدا على عشرة من معانيها كما حدث لي.. أنا نتاج جامعة عربية، ولهذا فإنني أعتبر نفسي عصاميا، بمعنى ان معظم حصيلتي المعرفية أتت بجهد ذاتي.. تخرجت مسلحا ببكالوريوس في اللغة الانجليزية بمرتبة الشرف، وعندما دخلت الحياة العملية اكتشفت ان انجليزيتي بمرتبة «القرف» وطفقت أتعلم تلك اللغة بالإكثار من الاطلاع على نتاجها من أدب وفكر وسياسة، واكتشفت بعد الإبحار في دنيا الكتب أنني احمل بكالوريوس في الأمية المعرفية.. وكانت جامعة الخرطوم التي درست فيها على أيامنا صنو جامعة كيمبريدج البريطانية، وكان بإمكان الطالب في جامعة الخرطوم الانتقال إلى كيمبريدج بدون كلام وفي نفس المستوى الدراسي الذي بلغه.. ومع هذا فقد كان التلقين و«الحفظ» سبيلي للنجاح فيها.
التعليم الجامعي أهم محطة في مسيرة الإنسان الاكاديمية، ولهذا فإنني أنصح كل من يستشيرني في أمر إلحاق عياله بالجامعات أن يبتعد بهم عن العالم العربي، إذا كان يملك القدرة المالية اللازمة لذلك، وليس مرد ذلك سوء الظن بالأستاذ الجامعي العربي، بل بالنظام التعليمي العربي الذي يجرد الاستاذ من المبادرة والتجديد والخروج عن القوالب الجامدة، فالجامعات تدار بنفس الطريقة التي تدار بها مصلحة المجاري او الأراضي: هرم إداري هرِم (بكسر الراء) واخطبوطي كل همه تقصي الالتزام باللائحة، واللوائح كما نعلم درع العاجز ذي الفهم المحدود والقاصر، ولا يعجبهم في اللوائح إلا «لفت النظر» و«الاستيضاح» و«مجالس التأديب»، وهكذا يستطيع موظف ساقط في الشهادة الثانوية ويعمل في إدارة اي جامعة ان ينشف ريق البروفيسورات، الذين سرعان ما يتعلمون أساليب المشي على العجين لضمان وصول الراتب سالما إلى الجيوب.. وكما انني لا أرى بأسا في تلقي التعليم الجامعي في الدول الأجنبية، فإنني لا أرى بأسا في ما يسمى بهجرة العقول، فـ«العقل» بحاجة إلى الرعاية والتقدير والأوكسجين وتخصيص الموارد كي يقوم بواجبه، وما لم يتوافر ذلك فإن العقل يبحث عن البيئة والمناخ الملائمين، ودول الغرب على نحو خاص تحتضن العقول والمواهب.. أنجح سفير أمريكي في العراق وممثلها حينا من الدهر في الأمم المتحدة، زلماي خليل زاد، درس في موطنه الأصلي افغانستان ثم لبنان ثم ذهب إلى أمريكا للدراسات العليا فاكتشفوا نبوغه وصار محاضرا في الجامعات الامريكية وسمعت به الخارجية الامريكية فاستقطبته، ويرأس الآن أكبر مركز للدراسات الاستراتيجية.. ولو بقي في افغانستان لربما اصبح في خبر كان، ولو بقي في لبنان لصار حائرا بين ستار اكاديمي وليليان!
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- الكرة أفيون العرب - (17 مارس 2012)
- سلاح التفسخ الشامل - (16 مارس 2012)
- ساعدوني لأسعد - (15 مارس 2012)
- الخيانة درجات - (14 مارس 2012)
- ليسوا عربا ولله الحمد - (13 مارس 2012)
- نفسي في دورة مياه بلا مياه - (12 مارس 2012)
- مدام أم مدمرة؟ - (11 مارس 2012)
- نم كثيرا تكن رشيقا - (10 مارس 2012)
- مرحبا بطالبي الرشاقة في وادي النيل! - (9 مارس 2012)