أين أصوات الاعتدال في إيران؟
 تاريخ النشر : الاثنين ٢٦ مارس ٢٠١٢
بقلم: راي تاكييه
يندر أن تؤثر الأحداث التاريخية الغامضة القادمة من بلدان بعيدة في النقاشات السياسية المحتدمة في واشنطون. هناك حدثان مهمان أثرا في المقاربة التي يعتمدها المجتمع الدولي في التعامل مع إيران: يتمثل الحدث الأول في نهاية حرب الأعوام الثمانية بين إيران والعراق سنة ١٩٨٨ والاتفاق الذي قررت بموجبه سلطان طهران تعليق البرنامج النووي الإيراني سنة .٢٠٠٣ لقد وجد آيه الله الخميني نفسه يواجه ضغوطا كبيرة وتجرع كأس العلقم ووافق على وقف إطلاق النار علما أنه ظل دائما يرفض أي حديث عن الهدنة.
لا شك أيضا أن نجاح سياسة الرعب التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس جورج بوش قد جعلت النظام الثيوقراطي الحاكم في طهران يرتعد ويخاف على وجوده، الأمر الذي جعله يسارع إلى تعليق البرنامج النووي الإيراني.
إن مثل هذه القراءة التاريخية مقنعة بقدر ما هي غير مكتملة. لقد عملت سلطات طهران على «موازنة» مصالحها بكل دهاء حتى تخدم مصالحها من كلا الطرفين غير أنها لم تفعل ذلك تحت الضغط فقط بل إن سلطات طهران قد فعلت ذلك أيضا بفضل وجود ائتلاف براجماتي قوي داخل الحكومة الإيرانية وقد نجح هذا الائتلاف في فرض رؤيته داخل النظام.
أما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم، فقد تم استئصال كل الأصوات المعتدلة من أروقة السلطة في طهران، علما أن النقاشات التي شهدتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال العقد الماضي من الزمن قد اختطفتها مجموعة ضيقة من اللاعبين الخارجين من رحم الثورة الإسلامية.
لقد كانت السنوات الأخيرة من الحرب بين إيران والعراق صعبة جدا على الجمهورية، علما أن نظام الخميني قد جعل آنذاك من القضاء على نظام صدام حسين في بغداد حجر الزاوية في استراتيجيته، فقد حاولت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تواصل الحرب رغم تنامي عزلتها واشتداد مشاكلها الاقتصادية وتفاقم الغضب الشعبي ضدها.
مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تكبدت إيران سلسلة من الانتكاسات على أرض المعركة في ظل قلة تراجع مخزون المتطوعين، الأمر الذي أعاق الاستراتيجية الإيرانية التي كانت ترمي لتوظيف العامل البشري في التغلب على التفوق التكنولوجي العراقي. عندها اضطر نظام الخميني إلى القبول بالأمر الواقع واتخاذ قرار الهدنة مع العراق بعد حرب مدمرة استمرت ثماني سنوات.
كان هاشمي رفسنجاني آنذاك رئيسا للبرلمان الإيراني فيما كان مير حسين موسوي - الذي يقبع اليوم في السجن بعد تزعمه الحركة الخضراء - يتولى رئاسة الحكومة. يبدو أن الرجلين قد سعيا منذ سنة ١٩٨٧ إلى بناء ائتلاف بين رجال السياسة من الملالي النواب البرلمانيين البارزين وبعض قادة الجيش النظامي من أجل الضغط لإنهاء الحرب وإقامة هدنة مع العراق. اصطدم جميع هؤلاء بالحرس الثوري وأنصاره الذين كانوا يصرون على مواصلة الحرب.
لقد كان الحرس الثوري يجد في الخميني القائد الذي يقدر التزامهم بالرسالة الثورية. لقد ظل علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومير حسين موسوي يعملان على مدى عام كامل على توسيع حلقتيهما وضما الكثير من المؤيدين والمقتنعين بقضيتهما، وعلى عكس الوضع القائم اليوم فإن «المرشد الأعلى» كان يثق بمقربيه من المعتدلين ويأخذ أفكارهم بعين الاعتبار ويقبل حتى بوجهات نظرهم. أما اليوم فإن المرشد الأعلى ومن حوله من الراديكاليين يضطهدون اصوات الاعتدال ويشيطنونهم ويصمونهم بالخيانة والعمالة لأعداء الثورة. لم يكن ذلك الأمر يعود فقط إلى الضغوط بل إنه يعود على وجه الخصوص إلى وجود فصيل داخلي قوي وقادر على التأثير في آراء الخميني.
في ربيع ٢٠٠٣، اتخذت إيران موقفا فيه الكثير من التحدي غير أنها تخفي الحقيقة، لقد كانت فرائصها ترتعد مخافة أن تكون هدفا للولايات المتحدة الأمريكية، فالسرعة الى نفذت به إدارة جورج بوش الغزو العسكري للعراق ونجاحها الخاطف في الإطاحة بنظام صدام حسين والهزيمة الساحقة التي ألحقتها قواتها العسكرية سببت صدمة كبيرة للجمهورية الإسلامية الإيرانية وقادتها. لقد ظلت إيران تحارب على مدى ثمانية أعوام من دون أن تنجح في إحداث ولو تغيير بسيط على الخط الحدودي الذي يفصلها عن العراق المجاور. بالمقابل فإن ثلاثة اسابيع فقط كانت كافية للقوات العسكرية الأمريكية كي تحتل بغداد وتسقط نظام صدام حسين.
لا شك أن ذلك النجاح العسكري الأولي الذي حققته الولايات المتحدة الأمريكية قد أرعب نظام طهران وجعله يسارع إلى تعليق برنامجه النووي. السؤال الذي يطرح اليوم هو التالي: لماذا ظلت إيران تعلق برنامجها النووي حتى بعد مضي فترة طويلة على الغزو العسكري الأمريكي للعراق وتحول هذه المغامرة العسكرية التي أقدمت عليها إدارة جورج بوش إلى كارثة حقيقية وفشل ذريع فيما غرق العراق في أتون الصراعات الطائفية الدامية؟
أما السبب فهو يعود إلى الحكومة الإصلاحية الإيرانية التي توخت سياسة حذرة وصمدت أمام ضغوط المتشددين ونجحت في الابقاء على البرنامج النووي الإيراني معلقا إلى أن جاء محمود أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة سنة ٢٠٠٥ فبدأ الصدام مع الغرب واتخذ أبعادا أكثر خطورة من اي وقت مضى.
لقد كان الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي وحلفاؤه ينظرون إلى البرنامج النووي الإيراني في إطار علاقات إيران الدولية الشاملة، الأمر الذي يتطلب العمل على موازنتها مع بقية الاعتبارات الأخرى، فقد كان هؤلاء الإصلاحيون يطمحون لإدماج إيران في النظام العالمي وأخذوا تهديدات منظمة الأمم المتحدة بمأخذ الجد.
ربما كانت الحكومة الإصلاحية الإيرانية تأمل آنذاك في الابقاء على البرنامج النووي الإيراني والحفاظ على علاقاتها التجارية في الآن نفسه لكن عندما وجدت نفسها تواجه العقوبات والمجابهة الصدامية مع الغرب بدأت كفة الإصلاحيين ترجح على حساب كفة المتشددين.
لقد كان الإصلاحيون يضعون مسألة التعاون مع المجتمع الدولي فوق البرنامج النووي الإيراني وكانوا مستعدين لتقديم تنازلات في مواجهة مطالب القوى الدولية الكبرى.
رغم أنه كثيرا ما يوصف الرئيس السابق محمد خاتمي وبقية حلفائه بالضعف فإنه نجح في الوقوف في وجه علي خامنئي وبقية المتشددين وأصروا على ضرورة أن تفي سلطات طهران بالتزاماتها الدولية.
قد تكون عملية تعليق البرنامج النووي الإيراني قد بدأت عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق غير أن التعليق قد انتهى مع مغادرة الإصلاحيين الحكم.
أما اليوم فإن إيران محكومة من المرشد الأعلى الذي لا يقبل بصوت معارض يعلو فوق صوته كما أنه لا يقبل بطرح أي موقف بديل.. ويبدو فوق ذلك كله أنه مهووس بالعلوم النووية.
لقد انتهى أولئك الإصلاحيون والبراجماتيون الذين يستخدمون مكانتهم ونفوذهم داخل الحكومة من أجل إبعاد علي خامنئي عن المواجهة. هذا هو وجه الفرق الجوهري ما بين المأزق الحاد الذي تتخبط فيه إيران اليوم والتجارب التاريخية السابقة التي مرت بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لم يضع كل شيء ولاتزال الفرصة متاحة. يتعين وضع استراتيجية زجرية فعالة لا تعتمد فقط على العقوبات الاقتصادية وتمتد بالتالي لتستغل نقاط الضعف السياسية التي يعانيها علي خامنئي بطريقة تجبره على توسيع نطاق الائتلاف الذي يتزعمه ويمد يده إلى العناصر والشخصيات الأكثر اعتدالا.
عندها فقط يمكن منح الثقة لإيران حتى تتفاوض وتلتزم بمعاهدة التحكم في التسلح.
* كبير الباحثين المختصين في دراسات الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية.
.
مقالات أخرى...
- عرب إسرائيل والهوية الفلسطينية - (26 مارس 2012)
- حمى الانتخابات الرئاسية تبدأ في مصر - (23 مارس 2012)
- هل أضر «الربيع العربي» بالقضية الفلسطينية؟ - (18 مارس 2012)
- محمد حسنين هيكل.. ذاكرة مصر - (18 مارس 2012)
- مــــــن هــمش القضيـــــــة الفلــســطينية؟ - (17 مارس 2012)
- هل مازالت فلسطين«القضية المركزية»؟ - (17 مارس 2012)
- خيارات أوباما بين إسرائيل وإيران - (14 مارس 2012)
- أخطار التدخل في سوريا - (13 مارس 2012)
- هل تنجح العقوبات في شل الاقتصاد الإيراني؟ - (12 مارس 2012)