الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٥٤ - السبت ٢٨ أبريل ٢٠١٢ م، الموافق ٧ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

أخبار البحرين

في كلمة الأستاذ أنور عبدالرحمن:

دعوة لرجال الدين البحرينيين أن يدرسوا تاريخ البابا





وفيما يلي نقدم نص كلمة الأستاذ أنور عبدالرحمن رئيس التحرير في حفل تأبين البابا شنودة والتي ألقاها نيابة عنه الأستاذ السيد زهره..

حين نلتقي اليوم لنتذكر قداسة البابا شنودة الثالث في الذكرى الاربعين ونتحدث عنه، فنحن نتحدث عن زعيم روحي وطني مصري عربي نتعلم من ارثه الكثير، وستظل الأجيال القادمة تتعلم منه.

ولعل خير ما عبر عن مكانة البابا شنودة في تاريخ مصر والعرب ان الذي نعاه لم يكن الاقباط وحدهم.. مصر كلها نعته من أول الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، إلى كل مؤسسات الدولة، إلى كل الاحزاب والقوى السياسية في مصر بجميع انتماءاتها وتوجهاتها السياسية. كما نعته الامة العربية كلها.

مصر كلها تألمت لفقده، وشعرت بالخسارة الفادحة لفراقه، وكذلك الأمة العربية.

ولم يكن هذا بالأمر الغريب.. كان هذا عرفانا بمكانته الكبيرة وبدوره الوطني والقومي الرائد.

ولا يتسع المجال للحديث تفصيلا عن مكانة ومآثر ودور قداسة البابا شنودة الوطني والقومي. لكن نشير فقط إلى بعض الجوانب الاساسية.

أولا: كان البابا شنودة في حياته الشخصية، وفي زهده، وفي علمه وثقافته الموسوعية، نموذجا فذا فريدا يستحق ان تقتدي به الاجيال الجديدة.

هذا المصري البسيط الذي ولد في قرية بصعيد مصر، شاءت ارادة الله بعد مولده ان ترضعه مسلمات من القرية وان يكون له اخوة مسلمون في الرضاع.

كأنها كانت ارادة الله منذ البدء ان يصبح لاحقا رمزا لكل المصريين مسلمين واقباطا وايا كانت دياناتهم وانتماءاتهم.

لاحقا، اصبح بالفعل هو هذا الرمز بتربيته وعلمه وثقافته.

درس التاريخ الفرعوني والتاريخ الاسلامي والتاريخ الحديث, ودرس الادب واللاهوت، ليصبح مثقفا موسوعيا بكل معنى الكلمة.

كان مفكرا واديبا وشاعرا وعالما وفيلسوفا، وترك لنا نحو ٧٠ كتابا من تأليفه في الفكر واللاهوت والاصلاح الاجتماعي والتنمية والفلسفة ودواوين الشعر. وكان صحفيا وكاتبا بارعا.

ولا بد من الاشارة هنا إلى ان ثقافته العربية الاسلامية كانت ثقافة رفيعة. كان ملمّا الماما كبيرا بالفكر والثقافة والفقه الاسلامي. قرأ القرآن الكريم وكان يستشهد بآياته في خطبه واحاديثه، وله دراسة عن المسيحية في القرآن الكريم.

هذا الوعي العميق بالتاريخ، وهذه التربية الرفيعة، والثقافة الموسوعية، هي التي تفسر واحدا من اكبر مفاتيح شخصية البابا شنودة ودوره التاريخي الذي لعبه. نعني بذلك التسامح الديني والوطني.

كان يفتتح خطبه بعبارة «باسم الإله الذي نعبده جميعا».

وكثيرا ما كان يستشهد بقول أحمد شوقي:

الدين للديان جل جلاله.. لو شاء ربك وحد الأديان.

ثانيا: وتاريخ مصر لن ينسى للبابا شنودة ابدا دوره التاريخي المشهود في الدفاع عن الوحدة الوطنية المصرية، وفي التصدي لأي محاولة لاثارة الفتنة او الوقيعة بين ابناء الوطن الواحد.

لقد قاد الكنيسة المصرية في اصعب الظروف والاوقات. لكنه رغم كل شيء، لم يغب عنه يوما ان مصر فوق الجميع، اقباطا ومسلمين، وان الوحدة الوطنية لشعب مصر تأتي اولا قبل أي مصلحة لطائفة او جماعة.

وللبابا دوره ومواقفه التاريخية المشهودة المعروفة هنا.

كان هو الذي بدأ ذلك التقليد الوطني الجميل بإقامة حفلات الافطار الرمضانية في المقر البابوي.

وهو الذي رفض بحزم دعوات انشاء حزب قبطي.

وهو الذي رفض بشكل قاطع ومطلق أي دعوة إلى التدخل الاجنبي في شئون مصر الداخلية تحت دعوى حماية الاقباط، واطلق مقولته التاريخية التي خلدها التاريخ عندما قال: اذا كانت حماية الاقباط ستكون بتدخل أمريكا في شئون مصر الداخلية، فليمت الاقباط ولتحيا مصر.

والبابا شنودة بموقفه من الوحدة الوطنية على هذا النحو، لم يحم مصر من الفتن والمؤامرات الخارجية وحسب، انما ايضا استنهض الروح الوطنية العامة، وكرس لدى كل المصريين روح الولاء الوطني الجامع.

هو صاحب المقولة الخالدة: ان مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا.

ولم يكن غريبا انه في وصيته الاخيرة لم يخاطب الاقباط وحدهم وانما خاطب كل المصريين بقوله: أحبوا بعضكم واحفظوا بلدكم من الوقيعة.

ثالثا: اما موقف البابا شنودة القومي من قضية فلسطين، فهو معروف للجميع.

ظل حتى اللحظة الاخيرة متمسكا بالرفض القاطع السماح للأقباط بزيارة القدس وهي تحت الاحتلال رغم كل الضغوط المعروفة التي تعرض لها.

هو الذي قال إن الاقباط لن يدخلوا القدس إلا مع المسلمين وبتأشيرة من الدولة الفلسطينية وليس من سلطات الاحتلال، وان المؤمنين لا يدخلون مدينة الا وهم رافعو الرؤوس. انهم يطلبون مني ان اغير موقفي، فهل غيرت سلطات الاحتلال موقفها؟

إنه بموقفه هذا لم يسجل فقط موقفا قوميا عربيا مشهودا, لكنه بمكانته العالمية المعروفة، قدم دعما عالميا هائلا للشعب الفلسطيني في كفاحه.

بقيت كلمة اخيرة.

إنني اذ أتأمل تاريخ قداسة البابا شنودة ودوره الوطني المشهود على هذا النحو، وبالأخص موقفه التاريخي في الدفاع عن الوحدة الوطنية المصرية ومقاومة محاولات اثارة الفتنة، واقارن هذا بما يجري في البحرين اليوم، لا املك الا ان اشعر بالحزن والاسى.

إن بعض رجال الدين هنا في البحرين، هم للأسف الشديد الذين يثيرون الفتنة بين ابناء الوطن.. هم الذين يزرعون الكراهية.. وهم الذين يشقون الصف الوطني ويدمرون النسيج الوطني والوحدة الوطنية.

إنني أدعو رجال الدين هؤلاء إلى ان يدرسوا تاريخ البابا شنودة، وان يتأملوا فكره ومواقفه الوطنية بامعان.

أدعوهم الى أن يفعلوا ذلك، علهم يتعلمون ان رجل الدين الوطني مهمته ورسالته هي ان يقرب القلوب لا أن يفرقها.. ان يسعى لتكريس التسامح لا الكراهية.. ان يتصدى لمحاولات اثارة الفتنة لا ان يكون داعية لها.. ان يكون في طليعة من يدافع عن لمّ الشمل ومداواة الجراح والوحدة الوطنية.

واسمحوا لي ان أنهي هذا الحديث بقصيدة جميلة للبابا شنودة كتبها في حب مصر. وهي بالاضافة إلى انها تعبر عن وطنيته الجارفة، تعبر عن الحب الواجب لكل الاوطان.

يقول:

جعلتك يا مصر في مهجتي

وأهواك يا مصر عمق الهوى

إذا غبت عنك ولو فترة

أذوب حنينا أقاسي النوى

إذا عطشت إلى الحب يوما

بحبك يا مصر قلبي ارتوى

نوى الكل رفعك فوق الرؤوس

وحقا لكل امرئ كل ما نوى

سوف تمضي السنون، وسوف يظل قداسة البابا شنودة دوما مصدر إلهام للأجيال.

سوف يحفظ التاريخ له دوما جيلا وراء جيل ما قدمه لوطنه وأمته من فكر وثقافة وعمل ودور وطني وقومي رائد.



.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

الأعداد السابقة