الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٥ - الجمعة ٨ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٨ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الهجرة.. منهاج حياة





لم تكن الهجرة في أوسع معانيها، وأشمل دلالاتها هي مقتصرة على التحول من مكان إلى مكان، بل هي كما دل فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقوله وتقريراته أشمل من ذلك كله، ولهذا أنهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعنى الضيق للهجرة، وبيّن لأصحابه ولمن سيأتي بعدهم المعنى الشامل لها.

للهجرة بمعناها الضيق وهو الانتقال من مكان إلى مكان داع حين تسد السبل أمام الإنسان، فلا يجد الحرية في ممارسة أمور دينه، ولا يستطيع تحصيل رزقه، فعليه عندها أن يطلب حريته ورزقه في أرض أخرى لأن الأرض كلها لله تعالى، والخلق جميعاً عياله، وصدق الله العظيم: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا» (النساء/٩٧).

ولكن حين تنتفي هذه الأسباب، ولا يكون هناك داعٍ للهجرة وللغربة فعلى الإنسان ألا يترك وطنه وأهله وإخوانه، بل عليه آن يبقى معهم، ويجاهد معهم في تغيير الواقع إن كان هناك ضرورة للتغيير، ولقد حسم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخلاف حول معنى الهجرة ومتطلباتها في حديثه الصحيح الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه حين قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). وكان ذلك بعد فتح مكة حين انتفت أسباب الهجرة بعد أن صارت مكة دار إسلام بعد أن كانت دار حرب وكفر.

إذاً، فبعد فتح مكة انتفت الهجرة إلا لمن كان مضطراً إليها، وبقي بعد ذلك المعنى العام والشامل للهجرة لا تنتفي أسبابه، ولا تتوقف مبرراته، ونجد هذا المعنى في قوله (صلى الله عليه وسلم) وهو يعدد مراتب المسلم وترقياته، وذلك في قوله (صلى الله عليه وسلم): (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم ١٠، ومسلم برقم ٤٠ من رواية عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

فالهجرة في هذا الحديث الجامع المانع تفيد العموم، بل هي تجسد منهاج الإسلام، وهذا يعني: أن المسلم سوف يظل مهاجراً إلى أن يبعث يوم القيامة، وما الإسلام في حقيقته إلا أمر بالطاعات، ونهي عن المعاصي، فنأخذ من الأوامر ما نطيق ونستطيع، فيما دون الفرائض، وأما النواهي فنتركها جملة وتفصيلا، هذا في الأحوال العادية، ولكن حين تتغير أحوال المسلم من الصحة إلى المرض، ومن القدرة إلى العجز، ومن الإقامة إلى السفر، فإن أداء هذه الفرائض لها شروط مخففة تتناسب مع الحال التي صار إليها المسلم.

والنواهي رغم أننا مأمورون أن ندعها كلها إلا أن الحق تبارك وتعالى يجيز لنا بعضها عند الاضطرار إليها، كجواز شرب قليل من الخمر عندما يتعذر وجود الماء ويشرف الإنسان على الهلاك، وكأكل المحرمات من المطعومات عندما لا يوجد شيء من الحلال الطيب، وكل ذلك من رحمة الله تعالى بعباده سبحانه، واقرؤوا قوله تعالى: «فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (١١٤) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم (١١٥) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (١١٦) متاع قليل ولهم عذاب أليم (١١٧)» النحل.

إذاً، فالهجرة بهذا المعنى الواسع والشامل منهاج حياة المسلم، والصراط المستقيم الذي يجب عليه أن يسير فيه، وآلا يحيد عنه قيد أنمله، فقد سلكه من قبلنا من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن سار على دربهم، وترسم خطاهم، واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» النساء/.٦٩

ثم بعد ذلك من يستعرض معالم هذا الصراط الذي نسأل الله تعالى أن يهدينا إليه في اليوم والليلة سبع عشرة مرة يجد أنه هو نفس المنهاج الذي تدعو إليه الهجرة بالمعنى الشامل الذي أشرنا إليه، وهذه المعالم جاءت في سورة الأنعام في قوله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (١٥١) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (١٥٢) وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (١٥٣)».

إذاً، فهذه الآيات المباركات تشرح في بيان واضح مجالات الهجرة التي دعانا إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتي تجعل الهجرة في المفهوم الإسلامي فعلا إيجابيا مستمرا، وسعيا اجتماعيا دائما، والتزاما بأوامر الله تعالى ونواهيه قائما.

ولهذا فمن فاتته الهجرة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن لم ينل شرف صحبته (عليه الصلاة والسلام) فله أن يهاجر معه في سنته، وفي هديه، وينال بذلك شيئاً غير يسير من شرف الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولقد بشر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين الذين سيأتون من بعده بالأجر الجزيل إذا هم عملوا بمقتضى سنته، وعضوا عليها بالنواجذ، وترسموا خطى خلفائه الراشدين (رضوان الله تعالى عليهم) الذين هم نجوم الهداية الربانية الذين أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باتباعهم واقتفاء أثرهم، قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» عن ابن تيمية عن العرباض بن سارية رضي الله عنه/ مجموع الفتاوى/ رقم الحديث ٢٠/٣٠٩، حديث صحيح.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة