الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٣ - الجمعة ٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٦ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


النفس الأمّارة بالسوء





هذه النفس التي نحملها بين جنبينا نروح وتغدو بها، وتصاحبنا في صحونا وفي منامنا، وتكون معنا في جميع أوقاتنا وأحوالنا.

هي معنا في الفرح، وهي معنا في الحزن.

هي معنا في النصر، كما هي معنا في الهزيمة والانكسار.

هي معنا في القدرة، وهي معنا في العجز.

هي معنا في الصحة، وهي معنا في المرض.

أحوالنا مع النفس، ومع صحبتها أحوال كثيرة، بإرادتنا الحرة أن نجعلها معنا وفي صفنا، تعيننا على الخير: وتدلنا عليه، وبإرادتنا الحرة أيضاً أن نجعلها ضدنا، وفي صف أعدائنا الدنيا والهوى والشيطان فتحثنا على الشر، وتيسر لنا سبله.

ولقاؤنا اليوم مع النفس الأمارة بالسوء التي لا تفتأ تدعو صاحبها إلى المعصية وتلح في الدعوة إليها، وتزين له مخالفة أوامر الشرع ونواهيه.

هي نفس أعلنت الحرب على نوازع الخير في الإنسان وسعت جاهدة إلى تذليل العقبات أمام المعاصي، وتهوين المخالفة على الإنسان وإقناعه بأن الله غفور رحيم من دون لفت نظره إلى أن الله تعالى شديد العقاب أيضاً.

وتحاول هذه النفس أن تزين لصاحبها المعاصي، وتمد له في الأجل، وترسم له طريق الأمل وروداً وأزاهير، وأن لديه من فسحة الأجل ما يجعله يتوب قبل الموت، فليقتنص هذه السويعات في الشهوات المحرمة، وله أن يتوب بعد ذلك عنها، فيجمع بين الاستمتاع بالمعاصي، والتوبة والنجاة من العقاب.

ولأن الإنسان يرغب بإرادته أن يعصي، وأن يستمتع بالمعاصي، فإنه سرعان ما يستجيب لهذه النفس في حالة الأمر بالسوء، وتتهاوى عنده حصون المناعة، وأسوار التقوى، فإذا هو في بحر لجي من المعاصي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض.

وحين يدخل الإنسان في كهف الشهوات، وتضيع خطواته في دروب المعاصي يزعم أنه ضعيف الإرادة، وأنه لا يستطيع أن يصبر عن المعاصي، ويسوف ويؤجل التوبة والإنابة، فإذا اليقين (الموت) يطرق بابه، وإذا هادم اللذات يحل بداره، فيشيعه أحبابه، ويلطم عليه أهله وذووه الخدود، ويشقون عليه الجيوب ويندم حيث لا ينفع الندم، ويولول، ويقول: أرجعني أعمل صالحاً فيما تركت.

وسوسة النفس الأمّارة بالسوء سوف تورده موارد الهلاك، وسوف توقعه في شر أعماله، وتوهمه بأنه لا إرادة له، ولا سلطان له على جوارحه، فيقع في المعاصي، وفي شرك النفس الفاجرة التي سوف تقوده لا محالة إلى طرق وعرة مليئة بالمهالك، والعقبات.

النفس الأمّارة بالسوء هي بداية الانزلاق والتردي في هاوية النفس الفاجرة التي سوف تتحكم في إرادة الإنسان أو هكذا سوف يصور له شيطانه، ويوهمه هواه، لتتعطل ملكات الإنسان، وتهدر طاقاته، فتحول هذا الإنسان إلى معول هدم في وطنه، ويفوت على أمته فرص التنمية والتقدم التي تعرض له، وتساهم في بناء وطنه، وتحقيق طموحات مواطنيه، ورفاهية مجتمعه.

النفس الأمارة بالسوء هي داعية من دعاة الفساد، وهاجس من هواجس الشر، تنتاب الإنسان، فتحول الحق إلى باطل، والخير إلى شر، والتسامح إلى عصبية بغيضة.

لقد اعترفت زوجة العزيز في مصر بجريمتها الشنيعة في حق نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي اتهمته زوراً وبهتاناً، بأنه حاول أن يعتدي عليها، ولكن الله تعالى نجاه من مكرها، وبرأه من تدبيرها، وشهد شاهد من أهلها، فعلم العزيز ببراءة يوسف (عليه السلام)، ولكنه أراد أن يغيبه في السجن حتى ينسى الناس ما فعلته زوجه، كما طلب العزيز إلى نبي الله يوسف (عليه السلام) أن يعرض عن الخوض في مثل هذا الحديث حتى لا يلوك الناس سمعة العزيز، ويفضحوا زوجه.

وآثر نبي الله يوسف (عليه السلام) السجن على الاستجابة إلى غواية زوج العزيز، وضرب مثلاً في الطهر والعفة، وقطع على امرأة العزيز الطريق إلى أن تقوده إلى أوحال النفس الفاجرة، وحاشاه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي اختاره الله تعالى نبياً معصوماً، ورسولاً مبجلاً، واصطفاه ليحمل رسالته إلى الناس أن يقع في مثل هذا الذنب العظيم، ونطق لسان حاله قبل لسان مقاله بقوله تعالى:{ وقال رب السجن أحب الىَ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (٣٣) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (٤٣)} يوسف.

وبعد أن انكشفت الحقائق للعزيز، فما كان من امرأته إلا أن تعترف على نفسها، فقالت:{ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} يوسف/٣٥ .



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة