هل تجدي العقوبات في احتواء إيران؟
 تاريخ النشر : السبت ٣١ مارس ٢٠١٢
بقلم: أكبر خانجي
قبل حرب الخليج الأولى كان العراق يعتبر دولة متقدمة مقارنة ببقية بلدان الشرق الأوسط. كانت معدلات التضخم والبطالة منخفضة رغم وجود أعداد ضخمة من العمالة الأجنبية.
في الفترة ما بين ١٩٩٠ و٢٠٠٣، فرضت منظمة الأمم المتحدة عقوبات قاسية على العراق من أجل شل اقتصاده، ففي سنة ٢٠٠٣ أصبحت قيمة الدولار الأمريكي تساوي ٨٠٠٠ دينار عراقي بعد أن كانت قيمته لا تتجاوز ستة دنانير عراقية. مات أكثر من نصف مليون طفل عراقي ؟ أي أكثر من قتلى القنبلة النووية الأمريكية في هيروشيما ونجازاكي ؟ بسبب النقص الفادح في المواد الأساسية مثل المعدات الطبية والأدوية.
في تلك الفترة قالت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت: «أعتقد أن هذا خيار صعب.. لكن أعتقد أن هذا الثمن ضروري».
رغم أن تلك العقوبات القاسية ظلت مفروضة على العراق طيلة ثلاثة عشر عاما فإن نظام صدام حسين ظل قائما حتى الغزو العسكري الأمريكي الذي أطاح به. لم تفلح العقوبات أيضا في الإطاحة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو أو الزعيم الكوري الشمالي السابق كيم يونج إيل.
تتجه منظمة الأمم المتحدة والدول الغربية إلى تشديد العقوبات على إيران التي يبلغ عدد سكانها ضعف سكان العراق، ففي يناير ٢٠١١ قررت دول الاتحاد الأوروبي فرض حظر على الصادرات النفطية التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الإيراني.
كما وقع الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمرا تنفيذيا في الآونة الأخيرة ينص على تجميد ممتلكات المصرف المركزي و مؤسسات مالية إيرانية أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية. يأمل الغرب أن تؤدي هذه العقوبات المشددة إلى وضع حد للبرنامج النووي وإحداث التغيير الديمقراطي المأمول.
قد ينهار نظام الملالي في طهران لعدة أسباب يصعب التكهن بها غير أن تفاقم معدلات البطالة واستشراء الفقر في الطبقات الاجتماعية لن يكونا من ضمن هذه الأسباب، فلو كانت العقوبات تمثل سلاحا فعالا لكانت قد حققت النتائج المرجوة في العراق ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد لجأت إلى القوة العسكرية من أجل إسقاط نظام صدام حسين. إن العقوبات لا تؤدي إلا إلى زيادة معاناة الشعب الإيراني وزيادة تطرف النظام الثيوقراطي الحاكم في طهران على غرار ما كان عليه الأمر في العراق.
إذا ما فشلت العقوبات المفروضة على إيران فإن ذلك لا يعزى إلى قلة شدتها، فمنذ سنة ٢٠٠٦ ظلت العقوبات تستهدف الصفقات الدولية المتعلقة بالواردات والصادرات التي تمثل ٥٠% من الناتج الداخلي الخام وقد تسببت هذه العقوبات حتى الآن في إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد الإيراني عدا تفاقم معاناة المواطنين العاديين. ينتظر أن تزيد التحديات التي تواجهها سلطات طهران وتتفاقم معاناة الشعب الإيراني مع سريان العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والتي تستهدف البنك المركزي والصادرات النفطية الإيرانية. لقد أصبحت التجارة الدولية أكثر صعوبة حيث إن إيران لا تستطيع الحصول على ضمانات القروض، كما أن نظام طهران يضطر في ظل العقوبات المشددة إلى تسديد صفقاته نقدا، الأمر الذي أدى إلى التهاب الأسعار، فقد بلغ معدل التضخم ٨% في السنة في شهر نوفمبر ٢٠١١ وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن مركز الإحصاء الإيراني. أما قيمة الدولار مقابل الريال الإيراني فقد زادت بأكثر من ٦٠% خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فقد قفزت قيمة الدولار من ٩,٧٠٠ ريال إلى ١٥,٦٠٠ ريال مع بداية شهر يناير .٢٠١١ في ظل عدم إمكانية الحصول على ضمان القروض في الأسواق العالمية فإن الخيارات المتاحة أمام نظام طهران أصبحت محدودة وهي تشمل أيضا نقل الأموال عبر مكاتب صرف العملة أو بواسطة البرقيات أو أسلوب المقايضة غير أن هذه الخيارات تتسم بالصعوبة والتعقيد.
تستورد جمهورية الهند سنويا ما قيمته ١١ مليار دولار من النفط الإيراني غير أنها أجلت تسديد الدفع خلال الأعوام القليلة الماضية بسبب انهيار نظام الدفع، فمنذ يوم ٢٩ ديسمبر ٢٠١٠ أصدر المصرف المركزي الهندي قرارا بمنع الشركات الهندية من إبرام أي صفقات مع إيران عبر noinU gniraelC naisA وهي مؤسسة أنشأتها منظمة الأمم المتحدة سنة ١٩٧٤ من أجل تسهيل إبرام الصفقات في منطقة جنوب آسيا.
مع نهاية شهر يوليو ٢٠١١، بلغت المتأخرات الهندية للجمهورية الإسلامية خمسة مليارات دولار هي قيمة النفط الخام الذي تسلمته من طهران. ورغم أن ألمانيا سمحت للهند باستخدام المصرف الألماني-الإيراني الذي يوجد مقره في مدينة هامبورج الألمانية من أجل تسديد ديونها المتراكمة لإيران فإن هذه المصرف الذي كان يمثل المتنفس لنظام طهران قد أضيف إلى القائمة السوداء التي أعلنها الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة، الأمر الذي جعل مختلف المؤسسات المالية تمتنع عن تسهيل أي صفقات أو تمرير أي دفوعات مالية لإيران.
يذكر أن لجنة الطاقة في البرلمان الإيراني أعلنت في شهر أغسطس الماضي أن الهند لم تسدد من الدين المتأخر بذمتها سوى مبلغ مليار دولار أمريكي فيما تم التعويض عن المبالغ المتبقية باستثمارات إيرانية في الهند.
لقد باتت صناعة النفط الإيراني في موقف حرج وفي أمس الحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية. لقد قدرت وزارة الطاقة الأمريكية أن إنتاج إيران من النفط الخام يصل إلى ٣,٦ ملايين برميل في اليوم (سنة ٢٠١١) مع انخفاض سنوي في الانتاج يصل إلى ٤٠٠ ألف برميل بسبب تآكل الأنابيب البترولية. لقد اعترفت السلطات الإيرانية نفسها بانخفاض إنتاجها بما قدره ٤٠٠ ألف برميل مع نهاية سنة .٢٠١١
يرأس بهروز أليشيري المؤسسة الإيرانية للاستثمارات والمساعدات الاقتصادية والفنية وقد قال في شهر يونيو ٢٠١١ إن الايفاء بأهداف البرنامج الرامي إلى تطوير قطاعي النفط والغاز على مدى خمس سنوات وصولا إلى عام ٢٠١٤ يجعل إيران في حاجة إلى مبلغ يصل إلى تريليون دولار، علما بأن إيران كانت تعول على تأمين ٤٠٠ مليار دولار من جهات استثمارية أجنبية.
لقد شهد تدفق الاستثمارات الأجنبية على إيران تراجعا كبيرا. لقد أعلن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم بلغ ١,٢٤٤ تريليون دولار سنة ٢٠١٠ غير أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إيران لم تتجاوز ٣,٦ مليارات دولار للفترة نفسها، مقابل ٢٨ مليار دولار في المملكة العربية السعودية و٩ مليارات دولار في تركيا. لا شك أن هذا الفارق الكبير يعكس مدى التهميش الذي باتت تتخبط فيه إيران رغم ما تتمتع به من قدرات وإمكانيات كبيرة.
خلال الأعوام الخمسة الماضية وقع العراق أكثر من عشر اتفاقيات مهمة مع شركات نفطية عالمية. ينتظر أن يرفع العراق خلال الأعوام السبعة القادمة إنتاجه من النفط الخام من ٢,٨ مليون برميل يوميا إلى ١١ مليون برميل يوميا. لقد أبرم العراق أيضا عقدا بقيمة ١٧ مليار دولار مع كل من شركتي ميتسوبيشي وشال. وبالمقابل عجزت إيران عن إبرام مثل هذه الصفقات الكبيرة مع أي من الشركات البترولية العالمية منذ سنة .٢٠٠٠ لا شك أن العقوبات التي تكبل الاقتصاد تزيد من تفاقم البطالة والفقر ومصاعب الحياة غير أن الثورات تحدث في وقت النماء الاقتصادي.
تجد إيران صعوبة كبيرة في استيراد المواد والبضائع الضرورية، فبعض التجهيزات الصناعية والمواد مثل الحديد والفولاذ وغيرهما التي تستخدم لأغراض عسكرية وغير عسكرية يصعب اليوم استيرادها جراء العقوبات، الأمر الذي تسبب في نشوء صعوبات كبيرة أمام المصانع الإيرانية خلال الأشهر القليلة الماضية ما تسبب في تسريح آلاف العمال. هذه بعض سمات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تتخبط فيها إيران.
يؤمن النفط ٨٥% من الإيرادات الإيرانية التي بلغت ١١ مليار دولار خلال سنة .٢٠١١ تتوقف هذه الإيرادات المالية على المصرف المركزي الإيراني الذي كان يمثل وسيطا بين البنوك الإيرانية ؟ التي فرضت عليها العقوبات ؟ والمصارف الأجنبية، من أجل الحصول على القروض الائتمانية كما أنه يلعب دور الضامن للدفوعات. إن إدراج المصرف المركزي الإيراني إلى قائمة المؤسسات المالية من شأنه أن يعقد عملية تحويل الإيرادات المتأتية من صادرات النفط الإيرانية كما أنه يزيد من عزل إيران عن النظام المالي والاقتصادي العالمي.
لقد اشتدت معاناة الاقتصاد الايراني حتى من قبل القرار الذي اتخذه الرئيس باراك أوباما بفرض عقوبات مشددة على نظام طهران، مستهدفا على وجه الخصوص المصرف المركزي الإيراني. يعتبر الكاتب والمحلل فريد زكريا أن العقوبات الأخيرة قد تتسبب في انهيار الاقتصاد الايراني.
رغم شدة العقوبات فإنها لم تحدث أي تقدم سياسي يذكر في إيران بل إنها زادة من شعور الطبقة الوسطى بالمرارة. لا شك أن تشديد العقوبات ؟ على غرار تلك التي فرضت على العراق ؟ لن يؤدي إلى إخضاع نظام الملالي في طهران، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تستطيع أن تحافظ على بقائها طالما أنها مستعدة للاستمرار في قمع شعبها وتضييق الخناق عليه وكتم أنفاسه.
خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة الأمريكية احتدم الجدل حول ما إذا يمكن الاعتماد على العقوبات والضغوط الدبلوماسية لردع نظام طهران عن مواصلة طموحاته النووية أو يتعين اللجوء إلى الضربة العسكرية كخيار لا مفر منه.
إن دعاة العقوبات لا يفهمون هذه الإشكالية. يقول السيناتور الجمهوري الأمريكي مارك كيرك عن ولاية إلينوي الأمريكية:
«يمكن أن نأخذ الغذاء من فم شعب تخطط حكومته لتنفيذ هجوم يستهدف الأراضي الأمريكية. لكن في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية فإن لقمة العيش تصبح هي الشغل الشاغل للرأي العام فيما تفقد قضايا جوهرية أخرى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان أهميتها».
إن العقوبات تؤدي إلى تفاقم الفقر والمعاناة غير أن الثورات تحدث أيضا في فترة النماء الاقتصادي، فعندما تتحسن الحياة اليومية يرتفع سقف المطالب والتوقعات الشعبية ويصبح الناس غير راضين عن واقع حقوقهم السياسية المحدودة.
يقول عالم الاجتماع جيمس ديفس في كتابه «نظرية الثورة»: «إن فرص حدوث ثورة تزداد عندما تؤول التوقعات التي يكون سقفها مرتفعا إلى خيبة أمل وشعور بالمرارة».
أما ألكسيس دي توكفيل فقد ألمح إلى ما يسميه المنظرون المعاصرون «ثورة التوقعات المرتفعة» في معرض تحليله لخبايا وأبعاد الثورة الفرنسية.
«إن تلك المناطق الفرنسية التي شهدت تحسنا كبيرا هي تلك التي كانت فيها المواقف الغاضبة أعلى. قد يبدو هذا الأمر غير منطقي غير أن التاريخ مليء بالمتناقضات».
إن النظرية التي طرحها الفيلسوف ألكسيس دي توكفيل تبناها الكثير من الأكاديميين المعاصرين، ففي كتابه «تـشريح الثورة» يؤكد المؤلف كرين برينتون أن الثورات لا تحدث في أغلب الأحيان في المجتمعات المتخلفة اقتصاديا بل إن أكثرها يحدث في المجتمعات التي حققت قدرا من التقدم الاقتصادي، ففرنسا وروسيا على سبيل المثال عاشتا الفقر المدقع والمجاعة وقد تسبب ذلك في حدوث اضطرابات متقطعة وإن لم يصل ذلك إلى الثورات. كتب المؤلف كرين ديفس يقول: «إن الفقر المدقع لا يحول في كثير من الأحيان الناس إلى ثوار بقدر ما يزيد من عزلة الفرد والأسرة وانطوائهما على أنفسهما بحكم الانشغال بالهموم اليومية. إننا نشهد في مثل هذه الأوضاع روحا من اليأس القاتل والاستقالة».
لقد تأكد هذا الأمر في الثورة الإيرانية سنة ١٩٧٩، فقد كان الاقتصاد الإيراني يشهد آنذاك فترة من النمو على مدى عدة أعوام متواصلة وأصبح أقوى من أي وقت مضى في ظل عهد محمد رضا بهلوي حيث إن الناتج القومي الخام سجل معدل نمو بلغ ١٧%. كان مؤشر الأسعار مستقرا، كما أن معدل الدخل الفردي ارتفع من مليوني ريال سنة ١٩٦٠ إلى ٢,٧ مليون ريال سنة .١٩٧٧
في سنة ١٩٦٨ كتب الدبلوماسي الأمريكي هارولد سنادرس يقول:
«يبدو أن شاه إيران اتخذ قرارا واعيا بالسعي لتحسين مستوى عيش شعبه من أجل إبعاده عن القيام بأي تحرك يضمن له المشاركة في المسار السياسي. إن النجاح الاقتصادي لم يفرز حالة من الرضا عن النفس والقبول بالأمر الواقع».
أما السفير الأمريكي في إيران في السبعينيات من القرن الماضي ريتشارد هيلمز فقد كتب يقول سنة ١٩٧٥:
«إن التناقض ما بين النمو الاقتصادي السريع ومسار التحديث من ناحية والنظام الأوتوقراطي من ناحية ثانية هو الذي يسبب حالة من الغموض في الحياة السياسية الإيرانية».
لم يستطع شاه إيران التصدي لهذه الإشكالية، فقد كتب السفير الأمريكي وليام سوليفان (الذي حل محل ريتشارد هيلمز) في شهر أغسطس من شهر سنة ١٩٧٧:
«إن نسيج المجتمع الإيراني قد يتآكل تحت ضغط الفرص الديمقراطية الحقيقية. إذا ما اعتبرنا أنه من مصلحتنا استمرار الشاه في منصبه فلا بد أن نفكر فيما يمكننا القيام به».
المشكلة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تستطيع تلبية مطالب التوقعات الثورية التي ارتفع سقفها.
في مطلع شهر يناير ١٩٧٧ حث السفير سوليفان الإدارة الأمريكية آنذاك على التخلي عن الشاه والتركيز في المصالح الحيوية الأمريكية من دون سواها. يوم ١٦ يناير ١٩٧٩ كان الشاه قد رحل.
.
مقالات أخرى...
- أمريكا والشرق الأوسط.. مهرجان الأكاذيب - (29 مارس 2012)
- الأبعاد الإقليمية والدولية في الأزمة السورية - (29 مارس 2012)
- أين أصوات الاعتدال في إيران؟ - (26 مارس 2012)
- عرب إسرائيل والهوية الفلسطينية - (26 مارس 2012)
- حمى الانتخابات الرئاسية تبدأ في مصر - (23 مارس 2012)
- هل أضر «الربيع العربي» بالقضية الفلسطينية؟ - (18 مارس 2012)
- محمد حسنين هيكل.. ذاكرة مصر - (18 مارس 2012)
- مــــــن هــمش القضيـــــــة الفلــســطينية؟ - (17 مارس 2012)
- هل مازالت فلسطين«القضية المركزية»؟ - (17 مارس 2012)