الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٣ - السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

قضايا ثقافية

جُـــــــرأة الـشـعـــــــــــر





لم يعد للشعر العربي في زماننا هذا جُرأة كالتي اتصف بها شعر أبي الطيب المتنبي.

لا أقصد بالجرأة أن ينفلت الشعر من عقاله ويحرق اليابس والأخضر، الحيّ والميت، والكائنات المادية والمعنوية، ويهدم الحضارة الإنسانية ويقوّضها.

في قصائد ما بعد العصر الحديث أو ما تسمى بعصر الحداثوية أو التي أزعم بتسميتها (عصر التوحش البشري) صارت القصيدة ترقص على سطح الماء من دون أن يدركها البلل لأنها إنتاج عقل (ميتافيزيقي) غير واعٍ لا بالميتافيزيقية أو ما وراء الطبيعة والشمس فهي قصيدة تقول ما تشاء لأن قائلها يُساق وراء أبياتها كما تُساق العربة خلف الحصان.

أنا لم أقل تُساق القصيدة أمام الحصان، لأنها ليست قصيدة بل مجرد أسطر مموسقة يمكنها أن ترقص على مسارح بانكوك أو مانيلا أو بيفرلي هيلز بأمريكا لا ضير طالما هي تمتلك اللغة العالمية (الثعبانية) التي تجعل الجسد يتلوى ويتمايل حسب الإشارات المرسومة على النوتة الموسيقية.

في العصر الحديث قبل أن ينفلت الشعر من عقاله النموذجي، كان أول من أسَّس لحرية التعبير وأحدث ثورة عارمة فوق (السرير) هو الشاعر نزار قباني، الذي رسم لنفسه طُرقاً وعرة وغاص في العقل العربي (السري) حين تجرأ وقال:

ثوري أحبك أن تثوري

ثوري على شرقٍ يراك وليمة فوق السرير.

المعاني والصور واضحة، ولا تحتاج إلى تفسير القواميس الكلامية الشعرية لكن الذي كان أكثر جرأة منه هو (أبوالطيب المتنبي) لأنه تحدى العقل العربي أولاً ثم أراد منازلة القلب ثانياً وفي هاتين المعركتين فاز بجدارة.

لم يكن المتنبي بسيطاً في صوره وعباراته كما كان نزار قباني بل كان فيلسوفاً وعلى درجة عالية من التعمق فهل هناك في الوطن العربي اليوم من الشعراء الأحياء أو الذين يختبئون وراء الكلمات من يقول هذا البيت الشعري الذي احتفظ بقوته حتى يومنا هذا؟

يقول المتنبي:

(أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صممُ)

هذا البيت الفخم الذي يجمع من حوله كل القواميس اللغوية العربية يعلن دون مواربة أن الأعمى نظر إلى فن المتنبي وأدرك ماذا يريد أن يقول أو يريد أن يصل إليه أي أن الأميّ والمتعلم نظرا معاً إلى ما أنتجه الشاعر لأن العمل الإبداعي يمكن أن يؤثر في البصير والأعمى وهذه لعمري نظرة دقيقة لا يمكن أن يُحللّها إلاّ المتمكن والمتبحر في السيكلوجية الإنسانية والقادر على إذابة الأميّة الجليدية ببيت شعري واحد.

وحين يقول المتنبي:وأسمعت كلماتي من به (صممُ) فإن قولاً كهذا فيه العمق التصويري الذي يجعل من لا يستطيع السمع أن يتذوق العنصر الإيقاعي الذي يخترق (طبلة) السمع ويصل إلى الذهن وتلافيف الدماغ بمنتهى السهولة التي تصل إلى الإنسان غير الأصم.

إن المتنبي لا يستثني بعض الطبقات البشرية في عصره من الوصف الشعري إنه يخاطب الجميع بمفردة الجمع ويضعهم في سلة واحدة هي سلة البحث عن المعرفة أو مزاوجة العام بالخاص والخروج بنتائج بشرية هامة هي من إنتاج الشعر الجريء والمبدع.

إن في أبيات هذه القصيدة أشياء من الجمال الذي لا يوصف بالكلمات وعلينا أن نقرأ:

واحرّ قلباه ممن قلبُه شبمُ

ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ

ما لي أكتم حباً قد برى جسدي

وتدعي حب سيف الدولة الأممُ؟

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة