الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٣ - السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

سماواتٌ لحوريةٍ واحدة

الشاعرُ علي عبدالله خليفة بين سقيا الرمادِ ووهجِ الحب





لم تكن القصيدة عند الشاعر علي عبدالله خليفة، قصيدة نزهة أو ترفا لغويا، بل هي قصيدة تلمست كل جهات الألم والفرح، واندست في أكثر الجروح ألماً، ليكتبها الشاعر بشوق لا يعرف الانطفاء.

فمنذ أن عرف الإلهام وهو لم يتخلف عن ركب فرسان الشعر، تجاسر بحلمه عميقاً ليكتب قصيدة متشظية أحياناً، وفي أكثر الأحيان حنونا وذات اتصال روحي ونفسي، وفي ديوانه »حورية العاشق« الصادر عام ٢٠٠٠ م أي قبل أحد عشر عاماً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر..

..الديوان كتب بلغة العاشق لوطن مزروع في قلب الشاعر الذي أصر على ممارسة العشق والذهاب نحو المعشوق، ما أكد اتصال التجربة بالروح.

اللغة التي كتبت بها القصائد هي اللغة الفصحى التي فرضت عليّ الدخول في عالمها الفني، بالتخيل والجمال اللغوي.

فضاء اللغة - لغة للتخيل

لم تكن رسالات الشاعر علي خليفة إلا وهجا لشكلٍ لا يعرف من الورد غير الشذا، عطر ورد لزهرة لا تعرف الذبول، لأنها من وهج إنسان يوزع عبر لغة القلب ابتسامات هنا وهناك لأحبة يسكنون فؤاده.

(سقيت ورود الرماد

وعالجتُ فيها الحروق

وأسكنتها مهجةَ الفجر قبل الطلوع

كنستُ الفناءَ الفسيح

قلتُ لأسمال تلك الرعود

هنيئا لمن يرتجي مطفئات البروق)

تتسع الرؤية عند علي في فضاء رحب يتجوسق حوله أو وسطه امتدادٌ كبير للغةٍ معجونة بالحنين، هي لغة الشاعر التي درج عليها، والتي ظل منذ أن عرف إلهام القصيدة وفيا لها لا يخالف لها أمراً ولا يمزق لها رسالة شوق ومحبة، فالأجواء التي أحاطت نبضات قلب الشاعر، تركت فيضها اللغوي مشرعة النوافذ، جعلت من الشاعر أن يتخذ لفضاء قصائده استراتيجية توكأ عليها الشاعر متجاوزاً النمط السائد في بناء قصيدة الشطر والقافية، وقد أسّس الشاعرُ له بعدا فنيا عبر هذه الاستراتيجية التي قادته نحو فضاء حرية اللغة + حرية الإلهام + الانتقاء السلس للمفردة المعبرة + المعاناة التي يحملها الشاعر، كلها مجتمعة تشكل قصيدته ذات رسالة إنسانية مجتمعية تنحو نحو محبيها.

فالثراء اللغوي الذي شكل قصيدة علي خليفة هو ثراء زمني أخذ من حبل فتيل شمعة الليل ضوءها ومن السفن عمقها ومن الصناع ثراءهم، كما كان مسطراً في ديوانه البكر (أنين الصواري)، وفي دواوينه الأخرى التي جاءت بعد الديوان البكر.

وفي المقطع الذي أشرت إليه في مقدمة المقالة نكتشف مدى القدرة التي تمتع بها علي خليفة للإمساك بما تحتويه اللغة من معنى قادته نحو حرية التخيل في محيط فناء القصيدة التي جعل منها عالماً متصارعاً أحياناً وأحياناً صارت مثاليةً تنحو نحو الحنين الذي تتجاوز حدود عطائه، لأنه عالم مكتظ بحكايات يعرف الشاعر خليفة ويصر على تفجيرها والبحث عن سماواتها الممطرة.

«فالسقيا» مفردة مأخوذة من الفعل الماضي »سقى« أي سقى الرجل، أعطاه الماء ليشرب، دلالة على العطاء وقيمة الماء للبشرية، وما تحتويه من مخلوقات، كما قال سبحانه «وجعلنا من الماء كل شيء حي» فليس في استطاعة مخلوق الحياة بدون ماء.

فالسقيا لوردة الرماد، دلالة على ان الشاعر يريد أن يؤكد أن ما يخبئه الرماد من صراع تفضحه «السقيا» وهي دلالة على أن الحياة بغير هذه السقيا، موت، ولأنها أي السقيا دلالة على الحياة، فهي دلالة على الصراع الذي يعيشه الشاعر ويفجر من خلاله ما وطئته قدماه من حروق أثرت في قلبه وجعلته شعلة تبحث هنا وهناك عن ظلمة يفضحها بنور جذوته كقوله: »وعالجت فيها الحروق«، هذا الاصرار هو أحد المكونات الأساسية التي عرفها الشاعر منذ أن كان طفلاً، كون الشاعر وعبر سيكولوجيته التي فطر عليها علمته عن أي الجهات يبحث فيها عن رحيق النحل.

هذا الرحيق لم يأت من فراغ، بل هو معطيات عرفها الشاعر عبر بوابة الألم في زمن مضن احترقت أصابعه في تنوره، فتصلبت لتكتب بحرية أوسع من مجال الألم، متحملة كل انكسارات الزمن، وكل جراح الماضي والحاضر.

فالجراح التي حملها الشاعر خليفة لم تخل من معاناة امتدت مع الشاعر سنوات، وخلال هذه السنوات لم يتنكر لمحبيه أو لوطنه الذي أحبه حتى النخاع.

فالأحلام التي انزرعت بأحشاء الشاعر، هي أحلام ظل الشاعر يجرها معه، ويصر على تفجيرها عبر تعاطيه الإنساني مدركاً ما حوله من رياح متقلبة في هبوبها إلا أنه عبر كل هذه الاتجاهات التي تأتي منها الرياح كان متصلباً عنيداً في التحدي، لأن الذي تربى عليه أكبر من قوة الرياح.

فمهما كان «التنور» متوهجاً بناره، كان الشاعر في مقابلة هذا التنور صلباً.

فالصورة التي كونها الشاعر عبر معطيات النص الشعري، ذات دلالات بأن الشاعر لم يهدأ لحظة في غربلة همه ولم تغف له عين وبين جنبيه وطنٌ تشتعلُ في مكوناته إرهاصات الدنيا التي علمته، أن المسافات التي لا تعلم الإنسان الحفر، لهي مسافات اقصرها بعد القدم.

فالشاعر في ديوانه «حورية العاشق» ظل سنوات منشغلا بهذه الحورية التي خرجت من أزرق البحر نحو باسقات النخيل، التي اكدها بما رسمته أسطورة جلجامش عندما وطئ أرض «دلمون» كان همه البحث عن نبتة الخلود، نبتة الحياة التي علمته المغامرة.

فالحورية التي أراد اصطيادها أتعبته سنوات شاب فيها «فوديه» لكنه لم يقطع الأمل ظل مواصلاً على اصطيادها عبر كل تجاربه الشعرية ولم يكن آخرها «حورية العاشق».

فهو في هذه الحورية يقول:

(تكورا واكتنز بالدفْ

والعمل المصفى بالمكابرة)

هذه المكابرة التي جعلت من حوريته طيعة لأن من يقابلها فارس هز بالأمس جسدَ صواري السفن مجتازاً كل بحور التعب ليستريح أخيراً فوق صدر حوريته الحنون.

مكونات ذات فواصل

إن عمق علي خليفة الشعري لم يكن مرة محبا ليرسو فوق أجساد الموتى بقدر ما كان محبا أن يكون ضمن المشيعين لهذه الأجساد، فالأرض التي علمته طول سرد الحكايات هي الأرض التي أكدها أكثر من مرة أنها وطن الجميع، مكونات ذات فواصل لم تنقطع حلقاتها عن سلسلة ظهره التي ظل سنوات يحمل ألمها، ويعيد قراءة الرسالات السماوية عبر قصيدة لم تنضب، ولم تعرف لغة الجفاف.

فكل حوريات الدنيا لم تعادل حوريته التي تحمل ألمها واحترق بهواها ولما اشتد وجعها ظل ليالي يحترق في بكاء جرحها.

هذه الحورية هي امتداد لعمر من الحب الطويل الألم كما كان يقول في أنين الصواري:

(ويحهم قد أبحروا، ويح الشجونْ

ويح ما يجتاح أعماقي

ويطغى في جنونْ

ويح أيام تغذتْ من عذاب

ثم هدت جسمي العاجز والبادي الغضون

ها همُ قد أبحروا... كلّ الرفاق

شرعوا بالشوق في بدء انطلاق

والمجاديف مضت في البحر... عنفاً واتساق

بينما تلك الصواري في أنين...

هي والنّهام في لحن حزين... لا يطاق)

ويقدم لوحة معبرة مضنية للغواص ومعاناته المختلفة وينهيها بذروة معاناته:

(خرّشتها كثرة الملح وأدمتها الحبال

ثم يأتي الليل من بعد الكلال

خابي الأنجم... مهزوز الظلال

فيريني الصمت إلا من سعال

وأنين وابتهال

فأقَضي الليل محموم الخيال

تكثر الأوهام من حولي أشباحاً ثقال

ترهب القلب، وتمتص الثبات).

هذا الثبات كما أشار له الشاعر، هو ثبات على الحب بعيداً عن الكراهية مغسولاً بنبض تلك الحورية.

وهو فنٌ خبرَ وهجَ تلك الفواصل عبر محبته وإصراره على الحب واتصاله الإنساني بمحبيه، علمه التصلب وعدم انكسارات صواري أمسه أو الاحتضار في محيط الكره، السائد في الذاكرة العربية الحديثة.

سنوات عدة والقلب قد أضناه التعب وكاد أن يتوقف لكنه أصر على الحياة لأن الحورية التي نذر الشاعر نفسه حبا لها مازالت تحمل الأمل والخير وتحمل البشارة التي عرفها الشاعر علي خليفة كما عرفها بالأمس الشاعر قاسم حداد في مكونات لبشارات قادمة وولود بالخير والحياة، ولأن عليا كان من جيل قاسم الشعري، فهذان الشاعران استوطنا الحب معاً واشتعلا في جراح الوطن.

نحو وطن نلتحف به

هكذا هو الشاعر علي عبدالله خليفة، وهكذا تدور دوائر الألم ولكن لكل واحد من أبناء هذه الأرض وهج يقوده نحو وطن نلتحف به عندما يشتد البرد وتصطك الأجساد بالأجساد بحثاً عن الدفء، نتجاور معه في »عريش« الصيف الذي يضمنا أحباباً كل منا يمد الآخر بالدفء ويغطيه عن زمهرير البرد القاسي، في وطن البحر والنخل واكتظاظ ألم وحب مجنون بواحات افترشتها حورية لسماوات تمطر خصباً وحياة، كلما تشظت اترعنا فيها بين سقيا الرماد وبين وهج المحبين.

عمق متصل بالإبداع

يبقى أن اقول ان الشاعر علي عبدالله خليفة، ذلك الشاعر الذي فصل من جسده حكايات متعددة متصلة بالإبداع، عبر رسائل لم تنقطع ولم تعرف السكون لحظة، إنها تجارب توزعت بين اللغة الأم الفصحى وبين اللهجة العامية لجيل حمل لنا نحن أبناء البحرين رسائل متعددة ومتصلة بتكويننا المجتمعي، بشعر بحريني أصيل تنبعث منه روائح الهيل والزعفران، ابوابهُ مشرعة على البيوت المقابلة له في رقصة واحدة هي الوطن، وهو البيت الذي اضاء عليا والآخرين من الكتاب الذين حملوا جراح وافراح وطن لن تغيب شموسه.

له امتداد الشريان بالقلب، عبر قصائد متعددة تغنى بها علي الشاعر وكان للناس من حولها مرابع لحكايات الوطن الجميل وسماوات لحورية واحدة في العشق.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة