الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٣ - السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

حول ديوان «ينام على الشجر الأخضر الطير»

محمد علي شمس الدين.. الصوفي في مقام الحزن





منذ صدور ديوانه «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» عام ١٩٧٥ وضع محمد علي شمس الدين اسمه في مصاف شعراء العربية، ومنذ ذلك الحين ظل يواصل تجربته الإبداعية في جنوب لبنان، ويواصل مشاركاته الشعرية في الوطن العربي، إلى أن صدرت أعماله الشعرية في مجلدين، وتضم ثلاث عشرة مجموعة شعرية، ثم صدرت له مجموعتان من المختارات الشعرية، ثم هذه المجموعة الشعرية الجديدة، بعنوان «ينام على الشجر الأخضر الطير» في سلسلة كتاب «دبي الثقافية».

شمس الدين من مواليد ١٥ أكتوبر عام ١٩٤٢ في ضيعة بالجنوب اللبناني لاتزال تحافظ على تراثها المعماري القديم وبيوتها الحجرية وعبق تاريخها، هي قرية «بيت ياحون» وحصل على إجازة في الحقوق، وإجازة في الأدب العربي، وإجازة في التاريخ، ثم حصل على الدكتوراه من الجامعة اللبنانية، وقام بتدريس تاريخ الفن بها، وقد ترجمت أشعاره للإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية، ومازال يقدم تجاربه الشعرية التي تقوم على الجمال وتقوم بتشييد عوالمه، فتحس بقصائده كان صوفيا يكتب الشعر بقلبه وروحه، فيخرج صافيا، حتى لو كان الشاعر يقطر حزنا، وتراه يستخدم لغة بلورية تكشف عن معان روحية عميقة، هي ما يحتاج إليه إنسان هذا العصر.

تقع المجموعة التي بين أيدينا في ٢٣٤ صفحة من القطع المتوسط، وتضم اثنتين وأربعين قصيدة.

يبني الشاعر قصائده بالصورة وبالدراما، بطريقة تشكيل اللوحة التصويرية، حيث يظل بعض الصور يتكشف، إلى أن ينتهي الشاعر تماما من قصيدته فترى الصورة الكلية ناضجة بالمعاني الجمالية، وإن كانت تنم عن صور حزينة في مجملها، حتى نرى هذا البناء في قصيدة كاملة، نختار إحدى قصائده القصيرة، حيث يقول الشاعر في قصيدته «شجيرة الأسف»:

أنا شجيرة الأسف- رأيت أغصاني

على التراب تنحني - وتنقصف سمعتها

تصيح يا مغيث قبل أن - تموت حسرة وكمدا

وكان عندليب يأسها - يطير فوقها مغردا

كان «أسمهان»

سلمت إلى الغراب صوتها - ولون عينيها

إلى خزانة الخزف

هل وصلت حالة الجمود والتحجر بسبب الحزن إلى هذه الدرجة التي تبلورت في صورة تسليم أسمهان لون عينيها إلى خزانة الخزف؟ ربما نتجت جماليات الحزن عن »تخزف« لون عيني أسمهان، بدلا من تحجره، مما أعط بريقا ولمعانا لهذا الحزن المتبلور في الصورة، كما أنها منحت صوتها للغراب، فصار صوت الحزن أجمل بكثير مما نعلم عنه، فبعد أن كنا نعيب على الغراب »النعيب« صار له صوت أسمهان، والشاعر من بداية القصيدة قد طرح حالة الأسف التي يعيشها في صورة شجرة، تنهدم منحنية إلى التراب، وتتقصف، وقبل أن تموت يأسا وكمدا كانت صيحتها الأخيرة نداء لربها:

«يا مغيث» ويشترك في الصورة عندليب، هذا العندليب هو «عندليب يأسها» فكان صوت تغريده الجميل لا يغني إلا اليأس، وهكذا تداخل الحزن بالجمال، فصار الجميل حزينا يائسا، وصار الحزن جميلا ناعما، ولا شك أن صوت »أسمهان« معادل للعالم الذي يعيشه الشاعر، فهو يمثل صوت لبنان الذي رآه «ينحني وينقصف» فكأن أسمهان «سلمت»، وهذا التسليم هو قمة اليأس، وقمة الهزيمة، لأنها سلمت صوتها الذي كان أغلى ما تملك، ولون عينيها الذي كان مميزاً لشخصها وحضورها، فكأنها سلمت نفسها أو سلمت سلاحها.

كما أن صوت أسمهان في القصيدة يمثل رمزا عربيا مفقودا، وبناء عليه فإن الشجرة هي أمته العربية التي خيم عليها اليأس، وصار منظوره الجميل لها حزينا، فصار يرسمها على صورة شجرة تساقطت أغصانها، وإن كان الشاعر يأسف حين يراها تتساقط فإنه لايزال يراها من منظوره الجمالي، برهافة واضحة، ومن منظوره الإيماني، حيث يلبى الغوث من المغيث.

كان من الممكن في رحلة تكوين الشاعر للصورة أن يذكر الشاعر »أنا شجيرة« فلا تثير لدينا حالة الأسف التي صارت تظلل القصيدة، وتجعل الوطن مأسوفا عليه - بطريقة غير مباشرة - منذ بداية القصيدة، فقد لفت أنظارنا إلى ما سماه «شجيرة الأسف» فأحدث حالة من الغموض التي يمكن بلورتها في سؤال: ما شجيرة الأسف هذه؟ ليتبين في نهاية القصيدة أنها الوطن، كما أن تصغير الشجرة «شجيرة» جعلنا نتعاطف ونتأسف معه على ما حدث، ويظل التصوير الجمالي من أبرز السمات في قصائد هذا الديوان، فقصائده الثلاث القصيرة المعنونة «ثلاثية على مقام الحجاز» يخلع عليها الشاعر حالة موسيقية، كان هو واضحا من العنوان، تضاف إلى جمال التصوير، ويصور الشاعر في إحدى قصائد هذه الثلاثية مشهدا نيليا، بعنوان «عوامة على النيل» فيقول:

«ما للسفينة وهي تمخر في العباب خفيفة

وكأنها تعلو تهبط ثم تعلو كي تطير بطائرين

من الخيال ولا ترى إلا كطاووس يسافر

في مياه النيل طاووس ترصعه النجوم ويرتدي

من كهرباء الليل زينته الغريبة

أرسل الربان نظرته إلى الأفق البعيد ومال

منتشيا على أرض السفينة، إنه ثمل

وبحاروه خلف خطاه سكرى فوقهم

طير تدور كأنها ثملت وجن جنون هذا

الماء، والأسماك شاردة وسكرى

والنجوم تعوم هائمة على سبحات هذا الليل».

فلم يترك المشهد السماء أو سطح النيل فقد التحم الكل في مشهد الحركي الهفهاف، فالخفة التي شعر بها الشاعر تعبر عن طيران روحه هو، من المشهد الجمالي الاخاذ - وشعوره - في الوقت نفسه - بغرابة ما يحدث في النيل، حيث إن الحضارة الحديثة جعلته غريبا في زهوه، حيث قال: «ويرتدي من كهرباء الليل زينته الغريبة» فهذا ما أحس به الشاعر تجاه النيل، أو تجاه السفينة المبحرة في النيل، ولا شك أنه يصف الجمال الطبيعي للنيل مختلطا بالجمال المقتبس من حضارة هذا العصر »كهرباء« التي جعلت النيل غريبا.

والشاعر في ديوانه هذا، صاحب رسالة إنسانية، لم يكن الجمال المطلق مطلبا له، وإنما مطلبه الإنسان والوطن، والعالم، والجمال، فهو يقول في المقطع السادس من قصيدته المقطعية الطويلة »دموع الحلاج«:

«صليت ببغداد صلاة الدم

ونثرت بغزة أوجاعي

وعبرت الجسر الواصل

ما بين الموت وأضلاعي

دمعي أصل الطوفان

وقرباني جسدي

فاقطع إن شئت يدي

ستموج الغابة بالأغصان

ويعلو للأشجار عويل

حتى يثقب سقف القبة

من لم يعرف وجع الإنسان

وغربته في الأرض

فلن يعرف ربه»

فهذا الحلاج الجديد الذي يرى أن دمعه أصل الطوفان، متصل بالإنسان وأوجاعه وغربته، يدافع عنه ويتألم لألمه ويحس بغربته، ويحمل رسالة الجمال إلى العالم، حتى يمكن للإنسان أن يتصل بربه.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة