الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٣ - السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

قصة قصيرة

الضفة الثالثة للنهر(٢)





ملخص ما سبق: ودع الأب عائلته واتجه إلى النهر القريب من البيت وركب القارب الذي صنع خصيصا له وراح يجدف في مياه النهر على مسافة قريبة ولم يعد إلى البيت رغم محاولات العائلة لإرجاعه، واستمر الرجل مقيما في القارب سنوات طويلة من دون أن يعود.

أعتقد أنني الشخص الوحيد الذي يفهم إلى درجة ما ماذا كان والدي يريد وما لا يريد. الشيء الذي لم أستطع أن أفهمه إطلاقاً هو كيف كان يتحمل صعوبة الحياة. نهاراً وليلاً، تحت الشمس والمطر، في الحرارة وفترات البرد الفظيعة في نصف السنة، بقبعته القديمة على رأسه وبملابس قليلة جدا، أسبوعاً بعد أسبوع، شهراً بعد شهر، سنةً بعد سنة، بما أوقعت غير منتبه لها من الضياع والفراغ اللذين كانت حياته تسير فيهما. لم يضع أبداً قدماً على الأرض أو الحشائش، على جزيرة أو شاطئ اليابسة. لا شك أنه كان يربط قاربه أحياناً في مكان سري ربما طرف جزيرة مالكي يأخذ قسطا من النوم. لم يشعل أبداً النار أو حتى عود ثقاب ولم يكن لديه مصباح يدوي. كان يأخذ فقط جزءاً صغيراً من الطعام الذي أتركه له في الصخرة المجوفة، وهذا لا يكفي كما يبدو لي لمواصلة العيش. كيف كانت حالته الصحية؟ ماذا عن الاستنفاد المستمر لطاقته، ساحباً ودافعاً المجاديف للسيطرة على القارب؟ كيف استطاع أن يقاوم الفيضانات السنوية حينما يرتفع منسوب النهر ويكنس معه جميع أنواع المواد الخطرة، كأغصان الأشجار والأجسام الميتة للحيوانات التي ربما تصطدم فجأة بقاربه؟

لم يتحدث أبداً إلى كائن حي ونحن لم نتحدث أبداً عنه، فقط اعتقدنا. لا نستطيع أبداً أن نضع والدنا خارج التفكير. إذا كان لوقت قصير قد بدا علينا ذلك كان بمثابة خمود من الشيء الذي يوقظنا بشدة بإدراك الوضع المخيف.

تزوجت أختي إلا أن أمي لم ترد إقامة حفل زفاف. سيكون ذلك شأناً محزناً حيث إننا نفكر فيه في كل وقت نأكل فيه شيئاً وخصوصا الطعام تماماً كما فكرنا فيه في أسرتنا الدافئة في ليلة عاصفة باردة في الخارج هناك، وحيداً وغير محمي محاولاً أن يدفع القارب بيديه المجردتين . بين الحين والآخر يقول البعض انني كنت أبدو شبيهاً بوالدي أكثر وأكثر لكنني كنت أعرف أنه في ذلك الوقت لابد أن أصبح شعره ولحيته أشعثين وأظافره طويلة. تصورته نحيفاً وهزيلاً، أسود بشعر وحروق الشمس وعارياً تقريباً بالرغم من بعض الملابس التي أتركها له بين الحين والحين.

لم يكن يبدو مهتما بنا على الإطلاق لكنني شعرت بالحب والاحترام له وكلما امتدحوني لأنني أفعل شيئاً جيداً كنت أقول: »علمني والدي أن أتصرف بهذه الطريقة«.

لم أكن دقيقاً بالضبط لكن كان ذلك نوعاً من الكذبة الموثوق بها. كما قلت والدي لم يكن يبدو مهتما بنا لكن حينها لماذا يظل في الأرجاء هناك؟ لماذا لم يذهب إلى أعلى النهر أو أسفله خلف إمكانية رؤيته لنا أو رؤيتنا له؟ وحده يعرف الجواب.

رزقت أختي بولد. أصرت على أن تري أبي حفيده. في يوم جميل ذهبنا جميعا إلى ضفة النهر، أختي في ملابس زفافها البيضاء حاملة الطفل عالياً. زوجها أمسك بمظلة فوقهما. نادينا أبي بأعلى أصواتنا وانتظرنا لكنه لم يظهر. بكت أختي وبكينا جميعاً ونحن متحاضنون.

أختي وزوجها انتقلا إلى مدينة بعيدة. أخي ذهب ليعيش في مدينة كبيرة. الأوقات تتغير مع سرعتها المعتادة. أمي انتقلت أخيراً أيضاً، كانت عجوزاً وذهبت لتعيش مع ابنتها. أما أنا فبقيت في الخلف متروكاً لم أستطع أن أفكر أبداً في الزواج، فقط مكثت هناك مع معوقات حياتي، أبي يطوف النهر وحيداً وبائساً وهو يحتاج إلي. أعرف أنه يحتاج إلي بالرغم من أنه لم يخبرني أبداً لماذا كان يفعل ذلك. حينما وضعت السؤال إلى الناس بعنف وإصرار كان كل ما يخبرونني بأنهم قد سمعوا بأن والدي قد أوضح الموضوع إلى الرجل الذي صنع القارب. لكن هذا الرجل ميت الان ولا أحد يعرف أو يتذكر أي شيء. كان هناك فقط كلام مجنون، حينما كانت الأمطار شديدة ومتواصلة بأن والدي كان حكيماً كالنبي نوح وعمد إلى بناء القارب متوقعاً حدوث فيضان جديد، إنني أتذكر على نحو غامض أشخاصا يقولون هذا. في حالة، سوف لن أدين والدي على ما كان يفعله. كان شعر رأسي قد بدأ التحول إلى اللون الرمادي.

لدي فقط أشياء محزنة لأقولها. ما أسوأ ما فعلته ما هو ذنبي الكبير؟ والدي بعيد دائماً وغيابه دائماً معي، دائماً النهر يجدد نفسه بصورة مستمرة. النهر، دائماً. لقد بدأت المعاناة من كبر السن الذي تكون الحياة فيه نوع من التباطؤ. أصبت بهجمات من المرض والقلق. عانيت روماتيزما عنيدا. وماذا عنه؟ لماذا، لماذا كان يفعل ذلك؟ لابد أنه كان يعاني بصورة فظيعة. كان عجوزا جدا. في أحد الأيام في قوته المنهكة ربما يترك القارب يغرق أو ربما يسمح للتيار بأن يجرفه معه، يجرفه حتى يسقط فوق الشلال إلى مجرى النهر الهائج في الأسفل. هذا الشيء يضغط على قلبي. كان هو هناك في الخارج وكنت أنا للأبد محروماً من السلام. أنا مذنب بما أعرفه وألمي جرح مفتوح داخلي. ربما سأعرف إذا كانت الأمور مختلفة. بدأت أخمن ما هو الخطأ.

متواصلا معه هل أصبحت مخبولاً؟ لا، في بيتنا تلك الكلمة لم تكن تتداول أبداً وليس خلال جميع السنين. لا أحد يطلق على أي شخص أنه مخبول حيث إنه لا أحد مجنون، أو ربما كل واحد. كل ما كنت أفعله هو الذهاب إلى هناك والتلويح بمنديل لكي يراني على الأرجح كنت في كامل السيطرة على نفسي. انتظرت. أخيراً ظهر على مسافة هناك ثم على مسافة أخرى هيكل غير واضح في ظهر القارب. ناديته عدة مرات وقلت إنني مشتاقُ جدا لأقول وأعبر رسميا وتحت القسم. قلتها بأعلى ما أستطيع من صوتي: «أبي كنت في الخارج هناك مدة طويلة. أنت مسن. إرجع، لا ينبغي أن تفعل ذلك وقتا أكثر. ارجع وأنا بدلاً منك. الآن مباشرة إذا أردت. في أي وقت. سوف أركب في القارب واخذ مكانك».

وعندما أكملت كلامي دق قلبي بشدة.

سمعني. وقف. ناور بمجدافيه ووجه القارب ناحيتي. لقد قبل عرضي. وفجأةً ارتجفت عميقا جدا، فقد رفع ذراعه ولوح لي المرة الأولى في سنوات طويلة، طويلة جدا. ولم أستطع، في رعب، شعري كان على طرف، جريت. فررت بجنون حيث انه بدا لي سيأتي من عالم آخر وأنا أطلب العفو، أطلبه، أطلبه.

لقد شهدت ذلك الإحساس المخيف بالبرد الذي يأتي من الخوف المروع، صرت مريضاً. لا أحد منذ ذلك الحين رآه أو سمع عنه مرة ثانية. هل أنا رجل بعد هذا الفشل؟ أنا الذي لا ينبغي أن يكون أبداً. أنا الذي يجب أن يكون صامتا. أعرف أن ذلك متأخر جدا. يجب أن أبقى في الصحارى والسهول غير المعلمة لحياتي وأخشى انني سوف أقصرها. لكن حين يأتي الموت أريدها أن تأخذني وتضعني في قارب صغير في هذا الماء المستمر بين الشواطئ الطويلة وأنا في وسط النهر ضائع في النهر وداخل النهر، النهر.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة